سعدي يوسف.. أطبق عينيه كي يبصر!

كنت تعرف أيها «القرصان» أن «النجم والرماد» في مجازات الشعر ليست أكثر من مقدمة أولى لـ»قصائد مرئية» كتبتها على حين غياب كي تبقى شاهد عيانك الوحيد، بعدما اخترت منزلاً قصياً «بعيداً عن السماء الأولى» بألف بيت شعر، هناك عند «نهايات الشمال الافريقي» الممتد، الذي لا توأد فيه قصائد الشعراء وهم أحياء.


تلك الرمية يا سعدي، تحسب لك في موازين الشعر أو كما يقول العوام: ضربة معلم. كانت محاولة فادحة يا سعدي كالتي يطلقون عليها، الأمنية الأخيرة قبل أن ترفع صحف الكلام عالياً.
هذا الصباح يا سعدي ثقيل الحواس «استفاق تواً على غير هداه وكأني به قد تجرع خمرة حانات العالم كلها، رأيته يعب شوارع لندن متفلتاً من كل شيء إلا من يقين الساعة الأخيرة، التي ضربت لنفسك موعدها دونما اكتراث بعدما طويت «يوميات الجنوب، يوميات الجنون» وراء هامش الرحيل مع علمك المسبق بأن «مريم تأتي» على موعدها المحدد ولا تتأخر دقيقة واحدة.. هل خانتك ذاكرة الوقت، هكذا وبكل سهولة طويت رايتك الحمراء ورفعت بدلاً عنها بيرق الوداعات؟ حتى وأنت تركب عجلة الغياب، لم تنظر لمرة نحو «السماء التي انفتحت تقول له:
إلى اين تمضي، هل مقاصدك الجنوب الذي تدري أم الأمل الشمال»؟
أنا أعرفك يا صديقي منذ كتبت «قصائد باريس» كنت تريد لجوء آمناً إلى «جنة المنسيات» لتكتب على مهل «قصائد أقل صمتاً» بـ»أقل من أربع حركات» كبدعة أردت العبور من خلالها نحو خط النهاية.. ربما كان هذا احتجاجاً على الشعر الذي ضل جهات جنونه، أو أنك تقصدت، وقتها، الإفراج عن «يوميات أسير القلعة» الذي لم يعش مثلك «حياة صريحة» قبل سقوطه الحر في شبهة المجاز، تجاهل كل وصاياك التي قرأتها له، لكنه لم يحسب حساب «الخطوة الخامسة» بل هرب أماماً مثلك.
باءت كل محاولاتك بالفشل عندما فاض ماء «الينبوع» ليغمر كل سهوب اللغة، ويغرق بيوت الشعر التي فقدت رنين جرسها الموسيقي، بعدما أثقلت موازينها بدع التأويل. لعلك أدركت، وفي شوطك الأخير أن «قصائد العاصمة القديمة» لم تكن أكثر من «قصائد ساذجة» كتبتها على حين لهفة لبصرتك، التي لم تعد تذكر من معالمها غير تمثال «سياب» الشعر الذي بقي بدوره حارساً لحرائق النخل..
«الليالي كلها» في منظورك الشعري أصبحت باردة كالمدينة التي اخترتها عن سابع قصد، بعدما أيقنت من أن الحياة استحالت مسرحاً، تتكرر على خشبته مسرحية «أيروتيكا» بحجة اختراع حيوات جديدة فارغة، من باب أنك أول «من يعرف الوردة» كرمز أيقوني، بما تحمله من كنايات..

نم يا صديقي على صمت، هذا كنه الكبار يغادرون من دون جلجلة، نم و»خذ وردة الثلج» التي سقيتها حريق قلبك قبل ألف عمر، خذها وامض بعيداً، فقد سقط عنك أثم «صلاة الوثني» الشقي المكتظة بالابتهالات..
نم يا سعدي فــ»الوحيد يستيقظ» أولاً قبل أن تحاصره فكرة الموت، يلتف حولها وقد يغرر بها وأن يجرها إلى ضفاف «بحيرة شبه ساكنة» تماماً بانتظار أن «يأتي الصباح..
هنا..
تدور النوارس..
الحمام يحط…
لكن…
بعيدا حيث نجهل».
فمنذ «الليلة لن تتنزل روح.. لن تأتيك الملائكة على هيئة طير.. لن تسمع قيثاراً أو أجراس لجين في الماء ولن تلمح غزلان الرنة في السهب الأبيض..
في هذه الليلة (يا سعدي وبصمت) تطبق جفنيك لتبصر.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى