في رسائل الحُبِّ

عبدالدّائم السّلامي
Latest posts by عبدالدّائم السّلامي (see all)
“سيندم كثيرًا مَن لم يكتب رسالةَ حُبّ في حياته”

صوفي كادالان (مختصّة نفسية فرنسية)

الظاهرُ أنّ الكتابة الرسائليّة (الترسُّل) قد ارتقت في ثقافات الشعوب إلى مقام الفنّ الأدبيّ الخاصّ بتدبير عاطفة المحبّة ومشتقّاتها، غير أنّ هذا لا يمنع من القول إنّ النصوص الكبرى للثقافة البشريّة تكشف عن حقيقة أنّ هذا الفنَّ معطوفٌ أيضًا على الجهل والذُّنوبِ والعنف والمنعِ، فكلّ جهلٍ وله رسالةٌ تَعْقُبه وتُحرِّرُ أفهامَ الناس من سلطتُه (الرسائل السماوية)، ولكلّ ذنبٍ رسالةٌ ترومُ تطهير الشُّعور البشريّ من ظُلُماته (رسالة الغفران)، وكلما ظهر عُنْف حضرت رسائلُ التسامح (رسالة في التسامح)، ولكلّ مَنْعٍ رسالة تتحدّاه (رسائل العشّاق). ولذلك كانت أشهرُ الرسائلِ صادرةً عن الآلهة، والفلاسفة، والمصلحين، والعُشّاق. فالرّسائل، إذن، هي فنّ الهداية والتنوير والإنسانية والمحبّة.

لوحة للفنان ليسيير أوري (1861 – 1931)

ولأنّ الممكنَ في هذا المقام هو الحديثُ في رسائل الحبِّ، ولأنّ الحديث عن تخلّق هذا الفنّ الآدميِّ نحا صوبَ أن يكون ذاتيًّا، جوّانيًّا، صامتًا، وذا أسرارٍ، فإنني سأكتفي من كُنْهِه بالتعريف والتمثيل والتوصيف، واستهلّ ذلك بقولي إنّ المرءَ حين يكتُبُ رسائلَ الحُبّ، إنّما هو -في أغلب الظنّ- ينْكَتِبُ بها، أعني: يَنْكَتِبُ فيها، بل قُلْ: إنه يستدعي المعشوقَ إلى رسالته، فيصير وإيّاه كيانَيْن أثيريَّيْن في اللغة فلا تراهما عيون الآخرين. فكلّ رسالة حبّ هي آخرُ ما يبقى للعاشق من قُدرةٍ على الفعلِ بعدَ صَدٍّ أو فراقٍ أو منعٍ: هي قدرته على أنْ يُعلِنَ حُبَّه في السِرِّ، ولا يتأتّى له ذلك إلاّ متى كان وحيدًا وخاليًا من الناس في الآن نفسه، وهذا شرطٌ يُسهّل عليه البوحَ والاعترافَ وإعلانَ ما يعتري كيانَه من أحوال الرّغبة في الحلول في المعشوق. ولذلك تكون غايةُ غاياتِ رسالةِ الحُبِّ تهريبَ عاشِقٍ إلى معشوقِه بعد استحالةِ تواصُلِهما إمّا بسبب البُعدِ بينهما في المكان وإمّا بسبب الهجر أو تفشّي ثقافة المنعِ من حولهما. ذلك أنّ الرسالةَ لا تَنْكتِبُ إلاّ متى فاضت عواطفُ العاشق فيضًا يُملي عليه أنْ يعصرَ كيانَه كلَّه في رسالة حبٍّ مُكثَّفةٍ سواء أكانت إيماءةً، أم غمزةً، أم تنهيدةً، أم كلامًا ثاويًا خلف كلامٍ صريحٍ، أم رسالةً شفويةً أو مكتوبةً يُوصلها منه إلى محبوبه طيرٌ صامتٌ أو بشرٌ صَموتٌ. وفي ضوء هذا، تكون رسائل الحبّ، في تاريخ الوقائع البشرية، أوّلَ عمليّةِ تهريبٍ لشِحْناتٍ عاطفيّةٍ بعيدًا عن حُدود الأعراف الاجتماعية ويقظةِ عُيونها. وككلِّ مُهَرِّبٍ مُغامِرٍ، ليس للعاشقِ وقتٌ لينظر إلى الخلفِ ويتبيّنَ أخطاءَ رسالته ويُصحِّحَها، فما يعنيه منها هو أن يعيش مغامرةَ عبور معناها كاملاً إلى معشوقه، لأن في عبور ذاك المعنى العِشْقيّ ضمانًا لعبورِ كيانه هو نفسه مبثوثًا في اللغة، بل يعبر حتى وإنْ كان مُغطّى في اللغة بغبار الطرقات الخفيّةِ الوعرةِ. ومن ثمّة فإنّ مِن أصدقِ ما في رسائل الحُبّ أخطاؤُها، أعني: قلّةَ الالتفات فيها إلى اللغة، لا، بل إنّ أخطاءَها مِن أحلى ما فيها. ذلك أنّ رسالةَ حُبّ خاليةً من أخطاء اللغة هي خطابٌ فارغٌ من مذاق الحُبِّ. فالعاشق إذْ يكتُبُ رسالةَ عشقه لا يستحضر قواعدَ اللغة في ذهنه وإنّما هو يستحضر معشوقَه في ذهنِ اللغة، فإذا لغة رسالة الحبّ تكتظّ بالعاشق والمعشوق، وتَنْسى نظامَها، ويغمُرُها من حضورهما فيها ارتجافٌ واهتزازٌ يَسْرِيان في جُمَلِها وفي نَصِّ الأرضِ كلِّه، وقد يبلغ العاشقان فيها حدودَ السماءِ، ويصيران جُملةً كاتبةً تلتحمُ بجُملةٍ مكتوبةٍ. ثمّ إنّ العاشقَ لا يملك بذخَ التفكير في سلامة لغة رسالتِه، كما يملكه قرّاؤُها الباحثون فيها عن مواطن الأخطاء، ولكنّه يملك، مثل كلِّ مُهرِّبٍ خبيرٍ، بذخَ تبذيرِ عواطِفِه في الرسالة دون خَشيةِ الفَقْر.

لوحة للفنان «فرانز سكاربينا» 1910-1849

*  *  *

وإنّ فنًّا بهذه اللَّطافة الوجدانية، وبهذه الطّاقة التخييليّة، لن يبقى بمنأى عن فكر الأدباء، وهم أقدرُ الناس تنبُّهًا للظواهر والفنون والأحوال، ولذلك لم ينسَ هؤلاء المبدعون أن يمدّوا إلى هذا الفنّ أيديهم في تدبير مغامراتهم العشقية، وأن يجعلوه سبيلَهم إلى إثارة فِتنة لغتهم، وفتنة خيالهم، وفتنة الآخَر المعشوق. فنشأ عندهم جرّاء ذلك أدبٌ رسائليّ سجّلوا فيه حياةً لهم ثانيةً ظلّت طيَّ الكتمان لا تظهر تفاصيلُها في الدّنيا إلاّ بعد أن يرحلوا إلى الآخرة. ذلك لأنّهم وجدوا في رسائل الحبّ فضاءً اعترافيًّا مُشبَعًا بالتذلُّلِ والرقّةِ والكَشْفِ (أي: بالآدمية التي تسكن الإنسانَ ولكنّه يُحاول ألاّ يُظهرها حتّى لا يُوصم بينهم بالضّعف والدّونية)، ولاحظوا أنه بإمكانهم أن يكتبوا فيه من تفاصيل أحوالهم، ومن مراغب ذواتهم، ما لا يقدرون على التصريح به للجميع، وهم يكتبون ذلك بخطّ أيديهم، وبمداد يختارون لونَه ورائحتَه، فيكون للخطّ والرائحة واللّون جميعًا معنى ينضاف إلى معنى كلمات الرسالة على حدّ ما يذهب إليه أستاذُنا صالح بن رمضان.

لقد أَعْثَرَ البحثُ في مجال الترسّل على حقيقة أنّ هذا الفنّ إنّما هو مبثوثٌ في كثير من مُدوّنات الأدب العشقيّ في العالَم، فقد حضرت رسائلُ الحبّ بين المبدعين عربًا وغربيّين، ولئن تستّروا عليها في حياتهم مثلما مرّت الإشارة إليه، فقد غادرت حيّزَ سِرّانيتها بعد وفاتهم، وكشفت عمّا كان يعيشه هؤلاء خلف حدائق أعرافهم الاجتماعية. ومن باب التمثيل لهذا الحضور يمكن أن أذكر رسائل جبران إلى مي زيادة، حيث يكتب لها في إحداها: “لقد صرفتُ الساعاتِ الطوالَ مفكراً بكِ مخاطباً إياكِ مستجوباً خفاياك مستقصياً أسرارَكِ. والعجيب أنني شعرت مراتٍ عديدةً بوجود ذاتك الأثيرية في هذا المكتب ترقب حركاتي وتكلمني وتحاورني وتبدي رأيها في أعمالي”، وفي الشأن نفسه شدّني قولُ غسّان كنفاني إلى غادة السمان في واحدة من رسائله إليها: “إنّ قصتنا لا تُكتب، وسأحتقر نفسي لو حاولتُ ذات يوم أن أفعل، لقد كان شهرا كالإعصار الذي لا يُفهم، كالمطر، كالنار، كالأرض المحروثة التي أعبُدها إلى حدِّ الجنون، وكنتُ فخورا بكِ إلى حدٍّ لمتُ نفسي ذات ليلة حين قلتُ بيني و بين ذاتي إنّكِ درعي في وجه الناس و الأشياء وضُعفي، وكنتُ أعرف في أعماقي أنني لا استحقُّكِ ليس لأنني لا أستطيع أن أعطيكِ حبّات عيني ولكن لأنني لن استطيع الاحتفاظ بكِ إلى الأبد”.

أمّا غربيًّا، فإنّ الشغف بنشر رسائل العشّاق لم ينِ يتزايد عند الناس، فهذا نابليون بونابارت يكتب لهفَتَه على رؤية حبيبته جوزفين: “لا تغتسلي، إنّي أركض الآن عائدًا إليك، وفي غضون ثمانية أيام سأكون عندك”. وهذه رسائل الممثلة جولييت دْرُوِيه إلى فيكتور هيغو تسأله في واحدة منها: “إذا كنتَ ستموتُ، فهل ستمنعني من الموت معكَ؟ أيها المجنونُ، أيُمكنُ لكَ أن تمنعني؟ ألستَ روحي وحياتي والحزنَ الذي ينهمر عليّ كل يوم مثل انهيار جليدي، الحزنَ الذي يخِزُ الروح وَخْزةً بعد وخزةٍ، أليس هذا موتًا طويلاً؟”، وسأكتفي من رسائل الحب الغربية برسائل ألبير كامو إلى ماريا كازاريس، حيث كتب لها في مفتتح واحدة منها على عادته في كتابة الجمل الحادّة، والعارية من كلّ تحفُّظٍ: “افتقادُكِ هو نهايتي الأكيدةُ”.

*  *  *

ومن أرقِّ رسائل الحبّ الشعرية ما بثّه عنترة العبسيّ في قصيدة “لحى الله الفراق ولا رعاه” من انهزام الفارس المغوار فيه في حروب الفراقِ التي فُرِضت عليه فرضًا، فنسمعه يقول:

لَحى الله الفِراقَ ولاَ رَعاهُ ** فَكَمْ قدْ شَكَّ قلبي بالنّبالِ

أقاتلُ كلَّ جبارٍ عنيدٍ ** ويقتلني الفراقُ بلا قتالِ

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 60

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى