طفلة أمل دنقل

عماد أبو صالح
Latest posts by عماد أبو صالح (see all)

“كان يا ما كان

أن كان فتى

لم يكن يملك إلا مبدأه

وفتاة ذات ثغر يشتهي قبلة الشمس

ليروي ظمأه

خفق الحب بها فاستسلمت

وسرى الحب به فاستمرأه”.

 

يقدم أمل دنقل في قصيدة “طفلتها” قصة حب بين فتى وفتاة فقيرين. بدأت الرعشة بين القلبين من نظرة عين “وهو في شرفته مرتقبٌ.. وهي في شبَّاكها متكئه” كما يحدث كثيرًا بين أبناء الجيران.

   المال، العدو التاريخي للحب، قال كلمته الأخيرة. إن الفتى “لم يكن يملك إلا مبدأه”، والمبادئ، كما في كل مكان وزمن، دليل إدانةِ صاحبها، صحيفة سوابق، أو فيش وتشبيه. لا تطعم فمًا، ولا تستر بدنًا، ولا تجمع عاشقين في بيت صغير:

 “ذات يوم

كان أن شاهدها

من له أن يشتري نصف امرأه

حينما أومأ لها مبتسمًا

فأشاحت عنه

كالمستهزئه

اشتراها في الدجى

صاغرةً

زُفَّت السبعة عشر للمئه”.

 أتخيل الفتاة، في فستان زفافها الأبيض، ترفع صبغة اليود إلى فمها وتنزلها في آخر لحظة، فالحياة كلبة غالية. أتخيل الفتى، في تلك الليلة الحزينة، يتلوى من الألم في غرفة نومه، ويكتم أذنيه بيديه أو مخدته حتى لا يسمع الزغاريد. لابد أنه امتنع أيضًا عن الطعام ثلاثة أيام أو خمسة، لكن الجوع كافر، وكان لابد أن يسكته بلقمة أو لقمتين. استسلم وقدم “التهنئه” إلى أن “مرت خمس سنوات على الوداع، وفجأة.. رأى طفلتها”:

 “لا تفرِّي من يدي مختبئه

خبت النار بجوف المدفأه

أنا

(لو تدرين)

من كنتِ له طفلة

لولا زمان فجَأَه

كان في كفيَّ ما ضيعتُه

في وعود الكلمات المرجَأه

كان في جنبيَّ

لم أدرِ به  

أوَ يدري البحر قدر اللؤلؤه؟

إنما عمرك عمرٌ ضائع من شبابي

في الدروب المخطئه”.

   يلوم العاشق نفسه لأنه ضيَّع حبيبته. لم ينقذها من عجوز في عمر جدها. (ليس مئة بالتأكيد، القافية حَكمت، المقصود رجله والقبر). لم يقدم لها سوى كلمات، أقوال لا أفعال، رغم أنه صادق في حبها. لا تقول لنا القصيدة (وليس مطلوبًا منها) أسباب عدم وفائه بوعوده. أنا أرجِّح احتمالين: أنه طالب جامعي يتقاضى مصروفه من أسرته، أو عامل في مهنة متواضعة يتكفل بتربية إخوته بعد موت أبيه. ولا أميل إلى احتمالين: أنه عضو جديد في تنظيم ثوري (يساري على الأغلب) وسمع من قياداته أن الزواج مؤسسة فاشلة، أو شاعر مبتدئ من ذلك النوع الرومانسي، الفاهم الشعر خطأ، ويريد ملهمات لا زوجات. الخلاصة أنه أفاق على “زمان فجَأَه” بلا حبيبة ولا زوجة ولا طفلة أو طفل. لم يعد لديه سوى قلب مكسور، و”ذكريات في الأسى مهترئه”.

 هذه القصيدة توجع قلبي.

ميلودراما ثقيلة تدفعني، كلما أقرأها، لأن أفتش عن بقعة ضوء تخفف السواد، أو فجوة صغيرة تبعث على الأمل. أواسي نفسي بأن القصة لم تنتهِ تمامًا. هي تزوجت صغيرة و”صاغرة” وهو لم يتزوج إلى الآن. لا يزالان شابين والفرصة متاحة أمامهما. إنها في أوائل عقدها الثالث، وهو في أوائله مثلها أو منتصفه أو أواخره. ربما تكرر زيارتها لبيت أهلها، في المستقبل، لتساعد أمها المريضة أو أباها الوحيد. ربما يراها، من شرفته، تنشر الغسيل. ربما يتبادلان النظرات مثلما تبادلاها في الماضي، وتشتعل شرارة الحب مرة ثانية. ربما يدسُّ رسالة قصيرة لها في جيب فستان طفلتها بعد أن يغريها بقطعة حلوى، فالأطفال كما هو معروف، يُحبون بالحلوى. ربما تتجرأ وتطلب الطلاق. ربما يموت الزوج الذي يتجاوز عمره حاليًا مئة وخمس سنوات (ميتة طبيعية، كما أتمنى، لا مدبَّرة) وربما يعيش الاثنان (الثلاثة، هو وهي والطفلة) حياة سعيدة تحت سقف واحد. سقف الشقة التي عجزا عن شراء واحدة مثلها في الماضي، ورتب لهما القدر فترة فراق مؤقتة لتكون من نصيبهما في الميراث. مبروك.

المصدر: الجسرة الثقافية . العدد: 62

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى