مخترع العزلة.. كتاب وألم جديد 

“من المُرجَّح أن تُقتَل بمُسدّس إذا كان لديك واحد، ومن المُرجّح أن يُطلق النار عليك شخص تعرفه” هكذا كتب الروائي الأميركي بول أوستر في كتابه الجديد “أمّة حمَّام الدم” أو Bloodbath Nation. صدر الكتاب مؤخرًا في خضم حادث عائلي، وسبب كتابته حادث عائلي أصلًا! يروي «أوستر» في الكتاب أنّ جدّته قد قتلت جدّه بالرصاص، وهي حقيقة أخفاها عليه والده «سام»، إلى حين اكتشفها بالصدفة.

اللّافت أيضًا أن ملاحظة أوستر عن الموت على يد شخص تعرفه تنطبق على واقعة موت ابنه «دانيال» إذا ما استبدلنا المُسدّس بالمُخدّرات؛ التي تعلم تعاطيها من شخص يعرفه. لم يلحظ أحد تقريبًا، أو ربما لم يُصرِّح أحد بذلك بعد، أنّ عنوان كتاب «أوستر» الجديد قد يكون مُستقىً من كتاب «چيمس سانت چيمس» المعنون “حمّام دم في الملهى”. كلا الكتابين يتحدّثان عن ظاهرة العنف، وعن حوادث شخصيَّة وقعت في الماضي، وعن الفساد في المجتمع الأميركي.

ربما تكون غاية «أوستر» ذي الستة والسبعين عامًا أن يذهب إلى «تمبكتو»، تلك الأرض التي تُعادل الجنّة في روايته التي تحمل نفس الاسم، كي يهنأ ويستريح، لكنّ زوجته الكاتبة سيري هاستفيت قد أعلنت، عبر صفحتها على إنستجرام، أنّها تُقيم حاليًا معه في «كانسرلاند»؛ لأنّه ذات يوم في ديسمبر الماضي عرف أنّه مُصاب بالسرطان، وأنّ الموت سيسلبه جسده، مثلما فعل مع ابنه، وحفيدته من قبله التي قتلها ذلك الابن، الذي يعد أسوأ روايات أوستر، بما سبب له من أحزان، واتهامات من الصحافة بالتدخل لصالحه في سير التحقيق في قضية وراء أخرى حتى انتهى بجرعة مخدرات زائدة.

هل أعطيتني المخدرات يا بابا؟

يستيقظ «دانيال أوستر» ذات صباح، لكن ليس على صراخ طفلته «روبي» المُعتاد، يلتفت إليها ليعرف المانع، فيجد عينيها جاحظتيْن مُتصلّبتين، وشفتيها زرقاوين ومُتكوّرتين وكأنّها على وشك النطق بكلمة، إلّا أنّها لا تنطق أبدًا. يُحاول إفاقتها ويفشل، يضخ بخّاخ “ناركان” في أنفها آملًا أن تُحرّك ساكنًا، فلا ينفعها. تظل ترمقه بنفس تلك النظرة الفاجعة، أو ربما الحزينة، فيتركها ليتّصل بالمستشفى، يستقبل قسم الطوارئ مُكالمته، فيصف إليهم الحالة، وعندما يصل رجال الإسعاف، يجدون الرضيعة “غائبة عن الوعي ولا تستجيب لهم”. ينقلونها إلى المستشفى، ثم يجرون الفحوصات اللّازمة التي تدفع بالطبيب المسئول بأنْ يُعلن آسفًا عن وفاتها. لم تحظَ تلك الصبيّة بفرصة للجري واللّعب، ولا حتّى أن ترقد بسلامٍ بعد أن فارقَت الحياة التي لم تعِشها أصلًا، ذلك أنّها نُقِلَت إلى المشرحة. وبعدما جرى التشريح، عرف الطبيب سبب الوفاة: “تسمّم حاد” جرّاء تناول جرعة زائدة من “الهيروين والفنتانيل”، كافية بـ “إنهاء حياة شخص بالغ”، ليس فقط طفلة لم يتعدّ عمرها العشرة أشهر.

حماقات بروكلين

يعود «دانيال» إلى منزله البروكلينيّ قبل الواقعة بيوم، حاملًا أكياسًا من الكوكايين. يتأكّد من أنّ زوجته «زوزان» قد ذهبت إلى العمل، ويعدو إلى الحمّام، يُحضّر جرعته المعهودة، ويأخذها، ثم يشرب القليل من الخمر، ويلوذ بسريره ضامًّا الصغيرة «روبي» إلى حضنه.

وحينما يستيقظ على كابوس فراق ابنته الحياة، وبعد تأكّده من ذلك في المستشفى، يقضي ليلة داخل آلة زمن، تُذكّره بماضيه المُفجِع:

يتذكّر «دانيال» ليلة مقتل «آندري ميليندز».. حينما كان برفقة صديقيه «مايكل آليج» و«روبرت ريجز» في شقّتهما، فأتاهم «ميليندز» طالبًا ثمن المُخدّرات التي ابتاعوها منه، فامتنعوا عن الدفع، وحدث شجار عنيف بينهم أدّى في النهاية لأنْ ضرب «ريجز» رأس «ميليندز» بمطرقة، ثم هجم عليه «آليج» وخنقه، وصبَّ في فمه مُنظِّف حمّامات قبل أنْ يُكمّمه بشريط لاصق. ومن ثَم حُمِل الجثمان إلى حوض الاستحمام المملوء بالثلج، وتُرِك هناك حتّى تعفَّن. وليُذهبوا الرائحة، أفرغوا عليه زجاجة عطر ماركة «كالڤن كلاين». ثم بعد ذلك قطّعوا أوصاله، ووضعوا رجليه وذراعيه في أكياس، وحملوها ليُلقوا بها من فوق نهر «هادسن».

يتذكّر «دانيال» ذلك.. يتذكّر ما شاركهم فيه، وما لم يُشاركهم فيه.. يتذكَّر الثلاثة آلاف دولار التي أعطاها إيّاه أصدقاؤه، بعدما فتَّشوا في جيوب الجثَّة، لكي يقتل حاسّتي السمع والبصر، يتذكَّر عندما قبضت الشرطة عليه وعلى رفاقه، يتذكّر السجن، يتذكّر خروجه منه بعدما جلس أبوه «پول» مع المُدّعي العام، يتذكّر حبيبه «آليج» الذي فرَّق السجن بينهما لأكثر من عقد، يتذكّر الكاميرا التي لم تفارق يده منذ ذلك الحين، وأسطوانات الـ «دي چي»، وغيابه عن مُذكًرات أبيه. يتذكّر «زوزان» التي قابلها في «برلين» وخطفت قلبه، يتذكّر يوم ولادة «روبي». والأهم من هذا كلّه، أنّه تذكَّر عيني «روبي»، وشفتيها الزرقاوين اللتين تكوّرتا وكأنّهما ستنطقان بهذا السؤا ل: “هل أعطيتني المخدرات يا بابا؟”.

لا يتحمَّل «دانيال» سوط الضمير، فينهض في اليوم التالي، ويلملم أغراض الفتاة.. الألعاب، وقصص الأطفال، والملابس، ويقف أمام بيته ليُعطيها للمارّة، وبعد أيّام، تقوده قدماه إلى محطّة المترو، هُناك يسقط على الرصيف، هُناك يكون موت. ثم في المستشفى يصدر التقرير: “جرعة زائدة تكفي لإنهاء حياة شخص بالغ”.

أن تصُمّم لك الحياة اختراعًا للعزلة

يجلس «پول أوستر» خلف منضدة مكتبه، مُنكِّسًا رأسه، يُحاول تذكُّر أوّل ما سطَر في مُذكّراته، فلا تُسعفه الذّاكرة، ينهض ليُفتِّش بين كتبه عن نسخة من “اختراع العزلة”، وحينما يجدها، يفتح صفحتها الأولى ويقرأ: “ذات يوم تكون حياة. رجل، على سبيل المثال، في أفضل صحّة، وليس لديه تاريخ مرضي، ولا مسنًّا حتّى. كل شيء يمضي في حياته مثلما كان، ومثلما سيكون دومًا. ينتقل من يومٍ إلى التالي، مُنصرفًا إلى شؤونه الخاصّة، حالمًا بالحياة التي تنتظره فحسب. ثمّ، فجأة، يكون موت. تنهيدة صغيرة، إنسان يتداعى على مقعده، ويكون موت”.

لكنّ «دانيال» لم يتداعَ على مقعده، بل راح ضحيَّة المُخدّرات، أو ربما من شدّة ألم سوط الضمير. يرن هاتفه، فيرُد، ليجد صحفيًّا من «واشنطون پوست» على الخط. يسأله عن حادثة موت ابنه، وحفيدته قبله بأحد عشر يومًا، فيرُد بـ “لا تعليق “. وكذلك سيكون ردّه على جميع مُكالمات الصحفيين التي ستُباغته فيما بعد. تأتيه زوجته «سيري»، تربت على كتفه، وتطبع قبلة حانية على جبينه. لا يتّخذ أي رد فعل، فقط يطلب منها الجلوس، تقع عيناه على بضعة أسطر في الكتاب، فيستكمل القراءة: “لطالما تصوّرتُ أنّ الموت سيصيبني بالخدر، سيشلّني من شدّة الأسى. أمّا الآن وقد وقع حقًّا، فإنّني لم أذرف دمعة واحدة، ولم أشعر بالعالم يتداعى من حولي”.

وفجأة يسأل بول أوستر زوجته الكاتبة عن شخصيَّة «مارك» في روايتها “ما أحبتته”، وعن سبب قتلها له في النهاية. يعرف بعض النقّاد والصحفيين أنّ «پول» و«سيري» قد رسما شخصيّتيْن تشبهان «دانيال». ففي رواية “ليلة الوحي” مثلًا، ألَّف «پول» شخصيّة «جيكَب»، المُدمن المُشاغب الذي يحرمه أبوه «تراوس» من الميراث. في السنة ذاتها، تُصدِر «سيري» روايتها الأشهر “ما أحببته”، والتي تُركِّز في نصفها الثاني على شخصيَّة «مارك»، الشاب الطائش الذي يُدمن المُخدّرات، ويرتاد على الملاهي الليليَّة، ويرتبط عاطفيًّا بشاب آخر تُلقي الشرطة القبض عليه فيما بعد بتهمة قتل تاجر مُخدّرات يُدعى «رافييل هيرنانديز». ذلك التشابه بين الواقع والخيال هو على ما يبدو ما دفع «أوستر» نحو تلك التساؤلات.

“وإذا كنّا نستطيع التسليم بالموت، بعد مرض مديد، أو جراء حادث، نعزوه إلى القدر، فحين يموت رجل دون سبب ظاهر، حين يموت إنسان، ببساطة لأنّه إنسان فحسب”.

ربما تلك القطعة هي التفسير الوحيد لصمت «أوستر»، ورفضه الإدلاء بأي تصريحات للصحف. عندما مات أبوه، لم يذرف دمعة واحدة كما ورد في مُذكّراته، وعلى رغم أنّ علاقته بأبيه تتشابه في أحيان كثيرة مع علاقته بابنه، فليس بوسع المرء أن يعرف ما إذا كانت عينه قد ذرفت دمعة أم بقيتْ جافّة. لكن ربما نجد في قوله هذا إجابةً فاصلة: “العادة كما تقول إحدى شخصيّات بيكيت هي مُخدّر عظيم”.

** المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى