مرهق إن تذكرنا وإن نسينا

من أبرز وأهم ملامح النظم الديكتاتورية أن الحاكم يرى نفسه مالكًا للحقيقة، ومثله يفعل كثير من رجال الدين
محنة التقدم في العمر، بالنسبة للكاتب، ليست محنة كتابة، بل هي محنة نسيان الكتابة
الخيال ليس قرارًا نتخذه عن وعي، لكن يمكن أحيانًا أن يحدث القرار حين يكون الشخص رهينَ محبسٍ سخيفٍ أو دامٍ
في كتابته عن كتاب ترويض الاستبداد للكاتب أنور الهواري يقول: إن تاريخ الإنسان هو تاريخ السعي الدؤوب لفهم السلطة وترويضها.
__________ عاطف محمد عبدالمجيد
«عشتُ مؤمنًا أن إبداعنا ككتاب هو ما سيتبقى لنا، ونحن نمر بين نُظم سياسية تتغير، ولا أعرف ماذا يبقى منها للبلاد».
استوقفتني هذه الجملة وأنا أقرأ مقدمة كتاب “آفة حارتنا بين الذاكرة والنسيان” للكاتب الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، الصادر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية للنشر والتوزيع. وهو كتاب في النقد الثقافي والقراءة، يضم مقالات كتبها المؤلف عن كتب أخرى، ويُقسمه إلى ثلاثة أقسام: فيض الأرض وخيرها، الحصار الزائل مهما طال، قيثارات السماء، ويحتوي كل قسم منها على فصلين، يضم الأول منهما مقالات فكرية في الفن والأدب والسياسة والحياة، بينما يحتوي ثانيهما على مقالات عن كتب لها علاقة بما ورد من مقالات في الفصل الأول.
إبراهيم عبد المجيد الذي يرى أن القضايا عابرة للزمن، يؤكد أنه لا يوجد في التاريخ عصر يمكن وصفه بالاكتمال، وكثير جدًّا من العصور التي عرفنا عنها أنها كانت زاهية، كانت مليئة بالظلم، غير أن فكرة الاكتمال من الأفكار بل الأحلام التي يتوق إليها كل البشر، يرى كذلك أن الإنسانية عَلمٌ سيظل يرفرف على كل القيم في كل العصور.
فيما يخص التراث ليس علينا أن نبحث في ماضي بعض البلاد الوحشي لنبرر حاضرنا المتوحش، ولا حتى ماضينا، هناك حروب تجري يموت فيها الآلاف، ويهاجر بسببها الملايين، لأن الحاكم يتشبث بالحكم، ولهذا أثره، الذي يُقره الكاتب، على حياة الناس العادية، يرى ويرى عبدالمجيد أن من أبرز وأهم ملامح النظم الديكتاتورية أن الحاكم يرى نفسه مالكًا للحقيقة، ومثله يفعل كثير من رجال الدين.
محنة نسيان الكتابة
هنا يقول الكاتب إن منطقتنا العربية تعيش وسط العالم المعاصر، في الوقت الذي تعيش فيه في العصور القديمة، وبكل ما فيها من قبح، هي أكثر مناطق العالم إلهامًا للشعراء وكتاب القصة والرواية، في الوقت الذي يحيط بها عالم آخر أجمل لا يقل إلهامًا، مؤكدًا أن محنة التقدم في العمر، بالنسبة للكاتب، ليست محنة كتابة، بل هي محنة نسيان الكتابة، وهي محنة لا يشعر بها الكاتب، لكن من حوله من محبين هم الذين يشعرون بها.
في “آفة حارتنا” يرى الكاتب أن أكثر الأدباء لا يولون السياسة أي اهتمام، مشيرًا إلى أن الإبداع وحده سبب للرضا وكل ما حوله قبض ريح، حتى الجوائز التي تثير غضب أو حقد أو حسد الكثيرين، تأخذها مجاري الحياة التي ترتفع فيها الأسعار في بلادنا، ذاكرًا أن السجون لا تزال مفتوحة للمفكرين وأصحاب الرأي، مضيفًا أن مهنة الكتابة والإبداع موهبة عظيمة من الله، لكن مجتمعات البشر لا تتحملها بسهولة، مثلما يقول إن الإبداع يساعد في عبور كثير من العقبات، لكن في لحظةٍ يحتل الجسد مكان الروح في المقدمة فيكون الأمل هو النهاية، ناقلًا هنا ما قاله السعيد الورقي من أن الفنون كلها متداخلة، تسعى جميعها إلى تقديم تفسير جمالي للكون، عندما نقدم حياة موازية من تصور وإبداع، ومن حدس معرفي يحاكيه الفنان أو يعبّر به عن حدسه بالكون، وهو تعبير يفسر به الفنان العالم من خلال إعادة تشكيله وصياغته على نحو جديد غير مألوف.
فيما يعلن حبه للموسيقى طوال حياته ذاكرًا أنه يُقال إن الجزء الأيمن من المخ هو الأفضل في المهام الإبداعية والتعبيرية، ومنه تأتي قدرات الإنسان على التعرف على الوجوه والتعبير عن المشاعر والموسيقى والألوان والصور والإبداع، دون أن يُخفي خوفه من التوقف عن الكتابة، ولو لفترات قصيرة، وهو الذي ظل لعقود محافظًا على طقوس الكتابة.
في كتابه هذا يُقدم الكاتب مجموعة من التساؤلات منها: من أين جاءت الفنون؟ وماذا تفعل حين ترى أن ما يحدث حولك أكبر من قدرتك على التصور؟ ومتى نعود إلى المعنى الحقيقي للدين؟ ومن أين جاءت قداسة كتب السلف؟ وهل كان هيمنجواي في حاجة إلى شهرة أكثر مما حظي به وجائزة أكبر من نوبل حتى لا ينتحر في سن الستين؟ وكيف تكون الثقافة في مواجهة الإرهاب؟ ولماذا يدخل الأدباء السجون؟ متحدثًا عن الأدباء ولغز سجنهم وهؤلاء، وهم المبدعون، أصحاب ما يُسمى بالقوة الناعمة، أي أن الفن ليس دبابة ولا مدفعًا رشاشًا ولا قنبلة من أي نوع، الفن هو حديث الروح، مضيفًا أن الأديب لا يتوافق مع هذا العالم كله، ولا يكون ذلك بالقصد لكن بالطبيعة الروحية للإبداع، إنها محنة أزلية لا تنتهي إلا بتطور المجتمعات نحو الديموقراطية، رافضًا أن تكون هناك أية أسباب لأن يُسجن كاتب أو مبدع أو مفكر.
عالم أفضل
هنا يكتب إبراهيم عبد المجيد قائلًا: أيها السادة الذين تطلبون من الأدباء مكافحة الإرهاب، الأدباء يبحثون دائمًا عن عالم أفضل مهما عبروا عن القبح، وهم لا يرضون ولن يرضوا أبدًا عن كل ما هو غير إنساني، وعلى رأسه الحكم الشمولي في أي مكان بصورة دينية أو عسكرية وكذلك الإرهاب.
لا تطلبوا منهم الوقوف ضد الإرهاب؛ لأنهم يفعلون ذلك بالفطرة، لكن أقيموا العدل ليقل الإرهاب، وأنهوا القوانين التي تمنع حرية الفكر، مضيفًا أن العالم يتغير تقنيًّا، لكنه يعود إلى الوراء سياسيًّا، مثلما يرى أن الوصول إلى الديموقراطية لن يحدث بقرار، بل بكفاح، مؤكدًا أنه منذ صارت السلطة وحدها هي التي تعرف طريق التطور، جرى ما جرى على الأرض، وصارت الديموقراطية كذبة يجب ألا يعرفها الشعب، بل هو غير مؤهل لها!
كذلك يذكر هنا أن الخيال ليس قرارًا نتخذه عن وعي، لكن يمكن أحيانًا أن يحدث القرار حين يكون الشخص رهينَ محبسٍ سخيفٍ أو دامٍ، رافضًا أن تخرج الرواية عن طريقها الفني إلى طريق المعرفة والعقل، مُظهرًا عدم تفضيله حشو صفحات الرواية بالحكمة أو خلاصة الفكر، متسائلًا ماذا لو لم يكتب؟ مجيبًا أن الكاتب يندفع في بدايته فرِحًا باكتشافه عالمًا جديدًا لنفسه يستقل به عن بقية البشر، ورغم تعدد الكُتاب إلا أن الموهوبين يشعر كل منهم أنه وحده له عالمه الذي يخصه دون غيره.
ثقافة البناء
هنا أيضًا يرصد الكاتب ما حدث من تغير في ثقافة البناء ذاكرًا أن البناء لم يعد ثقافة، بل صار مطمعًا في المكسب على حساب الجمال والمكان، وهكذا، مثلما يرى، تتعرض الثقافة بشكلها المادي إلى عشوائية لم تحدث تحت حكم الاستعمار الذي تم التخلص منه، بينما يقول إن الدارس لتاريخ مصر يجد انتفاضات المصريين لم تنقطع عبر التاريخ، وأكثرها كان في فترة الحكم الإسلامي عندما توافد عليها كثيرون ليحكموها، منتهيًا إلى القول بأن آفة حارتنا ليست النسيان، لكن إخراج الشعب من معادلة الحكم، وتملك الدولة الحقيقة وحدها، ومن ثم فالشعب “ينتظر” ولا “ينسى”، وهو أمر لا يمس مصر وحدها، مضيفًا أن مقولة نجيب محفوظ في روايته أولاد حارتنا “آفة حارتنا النسيان” صارت شعارًا لأحوالنا، خاصة في أوقات الهزائم والانكسار، وقد اعتبرها البعض علامة على استسلام الشعب، فالحارة تمثل الشعب، رغم أنه في التفسير الأصح تمثل البشرية كلها.
إلى جانب مقالاته هذه يكتب إبراهيم عبد المجيد عن عبده خال، بهاء طاهر، فيروز، محمود مختار، كما يقدم قراءة في عدد من الكتب، ناقلًا إلى القارئ هنا خلاصتها متحاورًا معها، قائلًا إن البهجة تبقى في ذكريات عن كتب قرأناها عن تغيير العالم، من هذه الكتب: ذاكرة النخبة، المتن المجهول، الطاهي يقتل الكاتب ينتحر، أنا قادم أيها الضوء، زهر القطن، محطات من السيرة الذاتية، مذكرات توماس راسل، ترويض الاستبداد، مذكرات يهودي مصري، سنوات الحرب والحظ، سيرة الضمير المصري، قاهرة المماليك، علم الخيال، رائحة الفراغ، العمران والسياسة وغيرها. وفي كتابته عن كتاب ترويض الاستبداد للكاتب الصحفي أنور الهواري يقول: إن تاريخ الإنسان هو تاريخ السعي الدؤوب لفهم السلطة وترويضها وترشيدها لتكون عامة حتى لو كانت وراثية، وتكون ممنوحة من الشعب لمن يمارسها، وليست إرثًا ولا هدية من السماء.
ذاكرة الجميل والمرير
ظنًّا مني أن هذا قد يبدو مريحًا، كثيرًا ما تمنيت أن أفقد ذاكرتي، رغم أنها تحمل ذكريات جميلة، لكن التجارب المريرة التي مررتُ بها، وخيباتي الكثيرة التي لحقتْ بي، نتيجةً لما تعرضتُ له من خذلان من كثيرين أشلعتُ لهم أصابعي العشرين شمعًا، وقدمتُ لهم ما لم يكونوا يحلمون به، تجعلني أُفضّل نسيانَ كل شيء، بما فيه ما هو مبهر وجميل.
وذاكرة الأوطان والأماكن مثلها مثل ذاكرة الأشخاص، مثلما فيها الجميل، فيها كذلك المرير مُرّ العلقم الذي تود أن تمحوه مهما كلفها ذلك من ثمن.
إبراهيم عبدالمجيد ـ من الكتاب
** المصدر: “مجلة الجسرة الثقافية”. العدد: 63