التلاعب الثقافي

من القصص التي وثقتها الكتب، قصة المستكشف الإيطالي كريستوفر كولومبس الذي علق مع طاقمه على سواحل جامايكا، كان ذلك في رحلته الرابعة إلى العالم الجديد، في 29 فبراير من عام 1504، بعد أن تعطلت سفنهم وباتوا يعتمدون على سكان الجزيرة الأصليين في تأمين الغذاء. غير أن هؤلاء السكان سرعان ما أوقفوا الإمدادات، بعد أن ساءت معاملتهم من قبل المهاجرين.

في تلك اللحظة الحرجة، لجأ كولومبس إلى حيلة قائمة على معرفة فلكية دقيقة؛ إذ كان يملك جداول رياضية من إعداد الفلكي الألماني ريغيو مونتانوس، وفيها توقيت كسوف كلي للقمر. استغل كولومبس هذه المعلومة ليزور خطابا دينيا يخاطب به زعماء القبيلة، مهددًا إياهم بأن “الإله غاضب” لتوقفهم عن إطعامه وطاقمه، وسيُعاقبهم بإخفاء القمر. وعندما بدأ الكسوف فعلًا، أصيب السكان الأصليون بالذعر، وسارعوا إلى استعطاف كولومبس ليتوسل إلى إلهه كي يُعيد القمر. وبعد أن انقضى الكسوف، عاد الضوء للقمر، فعاد معه تعاون السكان الأصليين، واستأنفوا تزويد البحارة بالغذاء حتى مغادرتهم. تحمل هذه القصة بين سطورها دلالات عميقة تتجاوز الحيلة الفلكية في ظاهرها.

لقد حول كولومبس المعرفة إلى خدعة وأداة سلطة، تُمارس من غير سلاح، وتخضع بها شعوبٌ بأكملها. لم يكن كولومبس بحاجة إلى الجيوش، فقد قدّم نفسه كوسيط بين الإله والناس، مستخدمًا سلطة الرمز الديني.هذا النموذج من التلاعب الثقافي لم ينتهِ بانتهاء الاستكشافات الكبرى، بل ما زالت آلياته قائمة بأشكال أكثر حداثة، عبر الإعلام والتقنيات والهيمنة الرمزية. حين تُفرض منظومة قيمية واحدة تحت شعارات عالمية، أو تُستخدم أدوات التواصل لصناعة وعي مشوّه، فإننا لا نبتعد كثيرًا عن مشهد كولومبس وسكان جامايكا، بل تظهر سيطرة المتحكم في المعرفة، مفهوم “التلاعب الثقافي”، هو توظيف متعمد لفجوة الفهم والمعرفة، ولتحقيق الهيمنة، دون الحاجة إلى صراع مباشر، إن التحدي الحقيقي اليوم لا يكمن فقط في امتلاك المعرفة، بل في أخلاقيات استخدامها. فوعي الشعوب بثقافاتها، وبقيم التبادل العادل، هو ما يصنع الحصانة الحقيقية من كل تلاعب ناعم. وإن كان كولومبس قد أخفى القمر في قصة، فإن الأهم ألا يُحجب الوعي في واقعنا الثقافي المعاصر.

@maryamhamadi

**المصدر: جريدة”العرب” 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى