وقفة مع حق المؤلف

تتموضع حقوق الملكية الفكرية في قلب الاقتصاد المعرفي المعاصر بوصفها الضمانة الأساسية لحماية الاستثمار في الإبداع والابتكار. وإدراكا لهذا، تمضي دولة قطر في تحديث تشريعاتها بخطوات نوعية، كان آخرها الانضمام إلى بروتوكول مدريد في أغسطس 2024 الذي وسّع نطاق حماية العلامات التجارية إلى أكثر من 130 دولة عبر طلب موحّد، وإطلاق الجريدة الرسمية الإلكترونية للعلامات التجارية في يوليو الماضي واعتماد شهادات رقمية للتسجيل، وهي تطورات تعكس توجهًا حكيمًا نحو رقمنة أدوات الحماية وتعزيز الشفافية، وتفتح في الوقت نفسه أفقًا للتفكير في مدى قدرة الأطر القانونية التقليدية على مواكبة التحولات التقنية في عصر يعيد تعريف الإبداع ذاته.
ولعل مجال النشر يأتي في صدارة التحديات، فما كان بالأمس حقوقاً راسخة محددة المعالم، أصبح اليوم موضع إعادة نظر جوهرية تفرضها طبيعة الأدوات الرقمية التي تنتج محتوى بكثافة وتنوع يتطلبان إطاراً قانونياً أكثر مرونة وشمولية، لضمان التوازن بين حقوق المبدعين ومصالح المجتمع المعرفي. وقد رسّخ القانون القطري رقم (7) لسنة 2002 إطارًا متوازنًا لحماية الإبداع، إذ جمع بين الحقوق المالية التي تكفل عائدًا عادلاً للمؤلف، والحقوق الأدبية التي تحفظ نسبة العمل إليه، مع منظومة تنفيذية فعالة تتولاها إدارة حماية حقوق الملكية الفكرية بوزارة التجارة والصناعة. كما يتيح القانون استثناءات مدروسة للأغراض التعليمية والبحثية، تسمح بالاقتباس أو النسخ المحدود بشرط احترام نسب العمل لمؤلفه وعدم الإضرار باستغلاله التجاري، وهو ما يعكس مقاربة تجمع بين الحق في المعرفة وحقوق المبدعين.
كما يتعزز التشريع المحلي بارتباطه بالمنظومة الدولية، إذ تمتد الحماية وفقاً لأي اتفاقية تكون دولة قطر طرفاً فيها، وهو ما تجسّد على سبيل المثال في الانضمام إلى اتفاقية «برن» لحماية المصنفات الأدبية والفنية. وكلها إجراءات ساهمت على نحو حكيم في الموازنة بين صرامة العقوبات، ومرونة تطبيقية تجيز الاستفادة المحدودة من المصنفات للأغراض التعليمية والنقدية ضمن شروط واضحة تشمل ذكر المصدر واسم المؤلف مع عدم الإضرار بالاستغلال التجاري العادي للعمل. وقد شكّل هذا التوازن المدروس بيئة قانونية محفزة للإبداع وضامنة لحقوق المبدعين، لكنه اليوم يواجه اختباراً حقيقياً أمام موجة التطورات التقنية المتسارعة.
غير أن التحديات التي تواجه قطاع النشر لا تقتصر على الجوانب القانونية، وإنما تتفاقم باستفحال ظواهر القرصنة الرقمية وانتشار النسخ غير المشروعة عبر الشبكات الإلكترونية. وهي ظاهرة تقوض الأسس الاقتصادية لصناعة النشر برمتها وتقوض الحوافز الضرورية لاستمرار الإنتاج الفكري النوعي. لذلك فإن الحلول الفعّالة تستدعي بدائل قانونية جاذبة، مثل إتاحة نسخ رقمية بأسعار رمزية، مزودة بوسائل حماية تقنية، بما يقلل من دوافع اللجوء إلى النسخ المقرصنة، ويتيح في الوقت نفسه وصولًا أوسع للمعرفة.
وتبقى هذه الفعالية مرهونة بوعي المجتمع بها، وجهود المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية في تعزيز ثقافة احترام الملكية الفكرية عبر برامج توعوية وتدريبية تؤسس لفهم مجتمعي لطبيعة العلاقة التكاملية بين حماية الحقوق وازدهار الثقافة. وبموازاة هذه الجهود التثقيفية، تبرز الحاجة إلى مبادرات عملية تعزز التوازن بين الحماية والانتشار، مثل تفعيل أنظمة الترخيص الجماعي المنصوص عليها في القانون والتي تسمح للمكتبات والجامعات باستخدام المواد المحمية قانونيًا مقابل رسوم تفضيلية، وإنشاء آلية موحدة وسريعة للتعامل مع البلاغات بشأن المحتوى المقرصن. كما يمكن للشراكات بين دور النشر، والجامعات، والمكتبات، أن تسهم في رفع الوعي لدى المؤلفين والقراء على حد سواء، من خلال ورش عمل وحملات تثقيفية.
لقد بات وعي المؤلف القطري بحقوقه أكثر رسوخًا في صون الحق وتوطين الكتاب. ومن موقعي كناشر، أدعو المؤلفين الشباب إلى التمعن في عقود النشر واستيعاب بنودها، والتفكير في صيغ مبتكرة تتيح لكتبهم الانتشار والحماية بنسخها الورقية والرقمية، فالمصنف الذي يُصان حقه ويُتاح للقراء قانونيًا لا شك في أنه يترك أثره البعيد. كما أن ما يتأسس على وعي المؤلف، يتعزز بمسؤولية القراء في جعل حماية الإبداع واحترام حقوقه طريقًا لازدهاره، وفي ذلك صون للمعرفة التي نحن جميعًا ورثة لها وأمناء على نقلها للأجيال القادمة.

** المصدر: جريدة”الشرق”

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى