المثقف ليس انعزالياً

يسود اعتقاد لدى البعض، بأن المثقف كائن متعالٍ على واقعه، يعيش في برجٍ عاجي بعيد عن تحديات واقعه، وعن هموم أفراد المجتمع اليومية، وأنه دائم التفرغ للقراءة والكتابة والتأمل، لينتج أعماله الإبداعية.

غير أن الواقع يدحض هذه الصورة النمطية، والتي إن كانت تجد جذورها في بعض تجارب المشهد الثقافي، غير أنها اليوم لم تعد صالحة لتفسير دور المثقف في زمن تتسارع فيه الأحداث وتتغير فيه أنماط الحياة على نحو غير مسبوق.

والحق أن المثقف في جوهره ليس انعزالياً، فالمعرفة التي ينتجها والوعي الذي يحمله، لا يمكن أن يتحققا إلا في سياق اجتماعي يتفاعل معه ويؤثر فيه، إذ إنه ليس مجرد قارئ للواقع، بل ينبغي أن يكون شريكاً فاعلاً في صناعته، حتى وإن كان ذلك بشكل غير مباشر، فالكلمة والموقف والفعل الثقافي أدوات تأثير لا تقل قوة عن غيرها من الأدوات، مهما كانت مجالاتها.

ولقد أثبتت التجارب الحديثة أن المثقف الفاعل هو الذي يمد الجسور بين المعرفة والجمهور، وبين النظرية والممارسة، وكذلك بين القيم والمصالح، وأيضاً هو الذي يترجم رؤيته النقدية إلى مبادرات واقعية، سواء عبر العمل الأكاديمي الميداني، أو المشاركة في النقاشات العامة، أو حتى من خلال الفن والإبداع. 

لذلك، يمكن القول إن المثقف الذي يكتفي بالعزلة والتأمل، من دون أن يُترجم أفكاره إلى مواقف، يفقد تدريجياً قدرته على التأثير ويحول معرفته إلى ترف ذهني، خاصة أن اللحظة الراهنة، بكل ما تشهده من تحديات، تفرض عليه أن يكون حاضراً إزاء واقعه، مصغياً لواقع أفراد مجتمعه، بقدر ما يتوجه إليهم بإبداعه، بل ومبادراً بقدر ما يحلل وينتقد، ليجسد بذلك أن الوعي ليس قيمة ذاتية فقط، بل هو طاقة تغيير.

من هنا، فإنه لا يمكن أن يكتمل دور المثقف إلا إذا كان طرفاً في النقاش العام حول القيم، والسياسات، والعدالة الاجتماعية، والهوية الثقافية، ما يعكس أهمية أن يكون دوره فاعلاً في محيطه، وأيضاً بقدر ما هو مفكر ناقد، وفرد مسؤول في مجتمعه، منطلقاً في ذلك من أن الثقافة قوة للارتقاء الجماعي، وليس مجرد زخرف فكري.

وبهذا المعنى، يصبح المثقف الذي يرفض الانعزال نموذجاً لدور جديد يتجاوز التنظير المجرد إلى المشاركة الواعية في بناء المستقبل، الأمر الذي يجعله يقرأ الواقع، ويحلله، ويقترح البدائل، ويعيد للثقافة معناها الأصيل بوصفها أداة لتشكيل وعي المجتمع، لا مجرد رصيد معرفي مغلق.

وعلى المثقف أن يدرك أنه لا يمكنه بحال الانفصال عن بيئته، والاكتفاء بإنتاج الأفكار من فراغ، بل عليه أن يسعى لتكون معرفته أداة لفهم الواقع والمشاركة في تطويره، انطلاقاً من أن الثقافة في جوهرها فعل اجتماعي يتغذى من الحوار والتفاعل، ولا يكتمل إلا بالقدرة على الوصول إلى الجمهور والتأثير فيه.

** المصدر: جريدة”الشرق” 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى