الصحة النفسية والهوية الوطنية

في العاشر من أكتوبر من كل عام، يلتقي العالم بشعار الصحة: لا صحة بلا صحة نفسية. وهو يوم لا يقتصر على رفع الشعارات، بقدر ما يعكس وعياً عميقاً بضرورة صون كرامة الإنسان من الداخل، والعناية بتوازنه النفسي كما يُعنى بجسده ومحيطه. فقد أعلنت منظمة الصحة العالمية شعار عام 2025: «الصحة النفسية في حالات الطوارئ الإنسانية»، ليؤكد أهمية الاهتمام بالنفس في أوقات الأزمات بوصفها ركيزة أساسية للقدرة على الصمود وإعادة البناء. إن أي هوية وطنية لا تقوم على مجرد الانتماء الثقافي أو اللغوي، بل هي منظومة متكاملة تُعنى بالإنسان من جميع جوانبه: الجسدية، والعقلية، والنفسية، والروحية. فالمجتمع الذي يحرص على صحة أفراده النفسية إنما يرسّخ قيم التضامن والتكافل، التي تُعد من أعمق سمات هويتنا الوطنية. لقد ورثت مجتمعاتنا الخليجية، وعلى رأسها المجتمع القطري، إرثاً من القيم التي تشجع على الدعم النفسي والاجتماعي: الجمعات والمجالس، الروابط العائلية المتينة، والمبادرات التطوعية. كل ذلك شكّل ولا يزال يشكل مظلة للأمان النفسي، وهو ما يتقاطع مع رؤية قطر الوطنية 2030 التي تضع الإنسان في ركائز التنمية، معتبرة أن رفاهيته الشاملة هي هدف ووسيلة في آن واحد. وتؤكد التجارب أن الأزمات، سواء كانت كوارث طبيعية أو نزاعات أو أوبئة، تختبر قدرة المجتمعات على التماسك. وهنا تبرز الهوية الوطنية كعامل حماية؛ إذ تمنح الأفراد شعوراً بالانتماء، وتجعلهم قادرين على مواجهة التحديات كجسد واحد. ولعل الاهتمام بالصحة النفسية في مثل هذه الظروف يُترجم عملياً في تعزيز المرونة الوطنية، حيث تتحول القوة النفسية إلى رافعة لاستمرار العمل، والتعافي، والنهضة من جديد. ويظهر ذلك جلياً في مناطق الحروب والمجاعات والنزاعات؛ فبالرغم من الثقل الذي تُلقيه هذه الظروف على كاهل الأطفال والكبار، إلا أنهم يدركون أن الحل يكمن في الاستمرار بأي وسيلة. وهكذا هم أهل غزة، وأهل اليمن، وأهل السودان، وغيرهم كثير. إن الاحتفاء باليوم العالمي للصحة النفسية هو دعوة لإعادة صياغة علاقتنا بذواتنا ومجتمعاتنا، والالتفات إلى من أثقلت كواهلهم المحن بفقد الأمن، أو الولد، أو المال، أو العزيز. هؤلاء في أمسّ الحاجة إلى الدعم والاهتمام والاحتواء. وفي الوقت الذي نؤكد فيه أن الهوية الوطنية هي البوصلة التي تحفظ للأمة مسارها، تبقى الصحة النفسية الجسر الذي يعبر به الفرد والمجتمع معاً نحو التوازن والازدهار. فلنجعل من هذا اليوم محطة للتأمل والعمل معاً، حتى نبني مجتمعاً متماسكاً، متوازناً، وقادراً على حماية أبنائه نفسياً بقدر ما يحميهم مادياً.

@maryamhamadi

** المصدر: جريدة “العرب”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى