تعال.. أسند قلبك لحظة!

- تعال.. أسند قلبك لحظة! - 2025-10-02
- ضياع يومك! - 2024-11-11
- التلفزيون بحلّة جديدة - 2024-08-22
أصبح لمنصات التواصل الاجتماعي الحضور الأهم في لحظة وعيش كل فرد، حتى أدمنّا عليها بوعي أو من دون وعي. لا نستطيع إبعاد التلفون عن متناول أيدينا حتى في أحرج لحظات: الأكل أو قيادة السيارة أو في مختلف الأماكن. لهفة مجنونة تقودنا إلى ملاحقة أخبار متدفّقة ومتجددة، بصور ملوّنة، ومن جميع أنحاء المعمورة. ولا داعي لإتعاب ذهننا، فكل شيء يصل إلينا، ووفق ما تشتهي أرواحنا.
يمكنني أن أطلق على لحظة عيشنا «لحظة التلفون الذكي»، وأننا نعيش «لحظة شاشة بامتياز»، لذا فإن العثور على ديوان شعر يقتنصك ويأخذك لعالمه منذ مطلع القصيدة الأولى فيه، فهذا أمر بات نادراً، مثلما هو يسعد النفس ولأكثر من سبب.
يُولدُ بعضُنا بفائض في الحواس/ يُعانون من فرط التيقُّظ/ من كثافة الانتباه/ من دوار بحرٍ موجُهُ لا ينتهي/ من الهوس بالمغادرة/ بالهروب/ كأن أحداً ينتظرهُم أو آخر يتربّص بهم/ يُولدون/ يُصبحون شعراء/ أو مجانين/ أو تعساء فقط.
هكذا تبدأ الدكتورة وأستاذة العلوم السرطانية والبيولوجيا الجزئية في فرنسا، الشاعرة «أصالة لمع» ديوانها المعنون «فيما تُمعنُ فيكَ الأشياءُ العاديَّة»، والصادر عن دار المتوسط. وطوال قراءتي للقصائد، كنت أتساءل: من أين لفتاة درست الطب، وهي تعمل في تخصص دقيق لمرض السرطان، من أين لها هذا الحس الإنساني المرهف والموجع؟ وكيف تصطاد هي لحظات إنسانية تكاد لا تُرى؟ ولماذا تراه قلب الطبيبة يضمّ بخفقه كل هذه المعاناة؟ وهل الحب سبب؟ وما ألبث أن أجيب نفسي: أن تكون شاعرًا فهذا لا علاقة له بشيء، سوى ببيئة ميلادك وقراءاتك وطفولتك وتجربة عيشك وعلاقتك باللغة، وأخيرًا شيء خفي يخصّك الله به، بعيدًا عن أي مهنة تزاولها!
الشعر ممارسة العيش اليومي باعتياديته ومراراته، «فيما تُمعنُ فيكَ الأشياءُ»، بينما قلبك يختزن قصيدة تجدك أمامها في لحظة تالية. ولأن الفن في تجلياته الأعلى يُساعد البشر على تحمّل قسوة العيش، لذا وحده الشعر المُصفّى بات يوفر ملجأً لأرواح هدّها تعب العيش، وكسّر الانتظار المرْ حماستها للعيش، وأنهكها أمل مُعلّق على هدب اللحظة القادمة. وكأن لسان حاله يقول: تعال اسند قلبك لحظةً!
تستطيعُ أن تُشفى حتى من الحنين/ حين يستيقظُ داخلك/ كنوبةِ جوعٍ ليليّ/ فترمي له نفسَك/ قطعة قطعة..
«ماذا تبقّى منّي الآن؟» تسأله/ «لم أعد أعرفُ من أنا/ أخذت يدي/ وأخذت عينيّ/ وأخذت الغزال الذي كان يركض في صدري/ وأخذت شجرة الليلك/ التي كنتُ أعلق عليها الأغاني حين أطيرُ/ وأخذت الماءَ/ من قلبي/ والرجفة/ من أصابعي/ وأخذت حواسّي/ ولي فقط الآن/ مذاقُ الدخان في فمي/ ولي لغتي التي/ تعتصرُها أيُها الحنين/ إن أخذتَها منّي غدًا/ لن أُشفى.
ينتظم ديوان الشاعرة أصالة في أمرين، الأول لغة طازجة مقشّرة للتو بسكين فاكهة الشعر، ومواجع إنسان تطحنه لحظة العيش العابر. ومن هنا فالقارئ ليس مُلزمًا بالبدء بالصفحة الأولى، وله أن يفتح أي صفحة ويبدأ القراءة، فيجد نفسه وجهًا لوجه أمام بعضٍ من عيشه وألمه.
54 قصيدة تخاطب الإنساني فينا، وبلغة تُظهر تمكّن الطبيبة، التي درست المواد العلمية، من اللغة، وتُظهر علاقتها الخاصة بالمفردة والجملة الشعرية، وبالتالي اللغة العربية التي صار خوفنا عليها يعدل خوفنا من ضياع هويتنا العربية الأهم.
الكتابة عن ديوان «لمع» أمر صعب، فأين للغة المقال التقريرية أن ترصد لغة شعر الشعر والحب:
اللغةُ لمنْ أحبّها ملاذٌ/ ولمن أتقنها طُرقات متشعِّبةٌ للحياة، مِطواعةٌ سلِسةٌ كطفلٍ لم يُكمل عامه الأول/ بها وحدها نستطيعُ أن نُحبَّ، وبها أيضاً نكره، بها نطرح الأسئلة، وبها وحدها يمكنُ للأجوبة أن تُلد، على مهلٍ دومًا، إن نحن بحثنا.
بها نجرحُ حين نريد، أو حين لا نريد، ثم نضعها على الجرحِ كما تضع الجدَّات بأصابع القلب، عشبة سحرية على خدشٍ صغير.. واللغة، في مكانها الصحيح، وفي شكلها الصحيح، لا تجرح/ هي شفّافة ككرة البلّور، واضحةٌ كنجمٍ في ليلةٍ صافية، حاسمةٌ كصفعة، قاطعةٌ كسيف.
** المصدر: جريدة”القبس”