أمة التطور

تتزامن هذا العام الذكرى الخمسون لتأسيس متحف قطر الوطني مع مرور عشرين عاماً على تأسيس متاحف قطر، فضلاً عن مرور 15 عاماً على تأسيس المتحف العربي للفن الحديث «متحف»، في حدث ثقافي يجمع بين دلالات الماضي ورهانات المستقبل.
هذه المحطات لا تختصر مسيرة مؤسسات فحسب، بل تعكس خياراً إستراتيجياً جعل من الثقافة عنصراً محورياً، ومصدراً أساسياً من مصادر ترسيخ الهوية الوطنية ما عزز حضور ومكانة دولة قطر ثقافياً وفنياً في المشهد العالمي.
ومن خلال حملة متاحف قطر، التي أطلقتها بهذه المناسبة، بعنوان «أمة التطور»، وتستمر على مدى 18 شهراً، تُطرح هذه الذكرى بوصفها لحظة تأمل في مسار طويل من الاستثمار في الذاكرة والإبداع، من أجل بناء الإنسان، والاستثمار في طاقاته الكامنة.
ولا يقف الاحتفاء هنا عند حدود الاستحضار، بل يضع الثقافة في صميم المشروع التنموي، باعتبارها فضاءً للتعلم والتواصل والتجديد، دون إغفال الماضي، وربطه بالحاضر، لبناء المستقبل، تأكيداً – بما لا يدع مجالاً للشك – أن التنمية الحقيقية لا تقاس بالأرقام وحدها، بل بقدرة الأمة على صون إرثها وصياغة مستقبلها بثقة ووعي واقتدار.
وإن كانت هذه الذكرى متجاورة في الزمن، إلا أنها تمتد في المعنى، بما يفوق الأرقام، ما يجعلها ذكرى للتأمل في كيف تبني أمة معاصرة سرديتها الثقافية، وكيف تُحوّل الثقافة من صورة نمطية إلى فعل إبداعي، ينبض بالحيوية في قلب المشروع الوطني.
ولم يكن متحف قطر الوطني، منذ بدايات تأسيسه في منتصف السبعينيات من القرن الفائت، مجرد جدران تحفظ القطع الأثرية أو تحمي الذاكرة من النسيان، بل كان فضاء لتثبيت هوية تعزز ذاتها في ظل زمن يشهد تحولات متسارعة.
واليوم، بعد مرور نصف قرن، ما زال المتحف، وهو يرتدي حُلة جديدة، يؤدي الدور نفسه ولكن بأدوات أخرى، كفضاء تفاعلي، يضع الزائر في قلب الإرث القطري، ليضخ حيويته إلى الحاضر، لتتجسد القصة الكبرى، في إعداد الفرد، وربطه بمجتمعه، لبناء حاضره، وصنع مستقبله.
وعلى الضفة الأخرى من الزمن، تأتي متاحف قطر قبل عقدين، كخيار إستراتيجي يضع الثقافة في صدارة الرؤية الوطنية، بعدما غيرت هذه المؤسسة الرائدة مفهوم «المتحف» كصورة نمطية لعرض المقتنيات، إلى فضاء زاخر بالحيوية الثقافية، ليتحول العرض المتحفي، من قاعات صامتة، إلى صالات تنبض بالحياة.
لذلك، فعندما تعلن متاحف قطر عن حملة «أمة التطور»، فإنها لا تكتفي فقط باستحضار الماضي، بل تعلن انفتاحاً على المستقبل، لتذكر الجميع بأن الثقافة مشروع دائم لا يقف عند حدود آنية، وأنه في الوقت الذي يتم فيه استحضار هذا الماضي، فإن الحاضر يرنو إلى المستقبل، متكيفاً معه، من أجل نهضة الأمة.

** المصدر: جريدة”الشرق” 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى