الراحلون يعودون في رواية هالة البدري «الهامسون».. محاولة للتذكير بأسماء ذهبت ولم تذهب

لو قُدر لي أن أُعيد تسمية رواية هالة البدري «الوشم» لعنونتها بـ “وشم الغائب”، فالوشم -في الرواية- هو الثيمة التي تربط الشخوص والأحداث الممتدة على مساحة زمنية واسعة في رواية الهامسون.
تجمع الرواية شخصيات واقعية وشخصيات تاريخية بخيط روائي تنسجه الكاتبة على مهل، بعد أن أعدت لكتابة روايتها هذه، أعدت وقرأت ودرست تاريخ مصر، الحديث والحديث نسبيًّا، وتجاوزت ذلك بنسج أحداث تاريخية دولية، لكنها تترابط مع الشخصيات الأساس في الرواية، كما أن الوشم -الغرائبي- البطل، هو الخيط الذي تتجمع كل مفاصل الأحداث والشخصيات حوله.
تظهر على أجسادهن تلك الأسماء التي لا معني لها، تظهر لأيام أو لساعات، ثم تختفي لتظهر من جديد، وقد تملأ كامل الجسد
رواية هالة البدري، الحاصلة على جائزة الدولة التقديرية في مصر للعام 2023، صدرت عن منشورات بتانة، العام الماضي. قد لا تعطيك الرواية مفاتيحها بسهولة، قد لا تشي لك بسر العنوان -الهامسون- مع صفحاتها الأولى أو حتى فصولها الأولى، حتى الوشم الغرائبي، أو العنوان الذي اختارته لها كاتبة هذه السطور “وشم الغائب” لن تسمح لك فصول الرواية الأولى، باكتشاف، سر العنوان، ولن تشي لك إلا برواية واقعية تدور في ريف مصر، ليس في الزمن الحالي ولكن في الماضي القريب، فهذه “هنية” المراهقة، الطالبة في الثانوية والمخطوبة للشاب علي، على أمل أن تنتهي من دراستها بعد عامين، فيتم الزواج، لكن وفاة الأخت الكبرى سلوى، تاركة طفلين يتيمين في رعاية هنية ووالدتها، يجعل زوج الأخت، هاني الأرمل، يتقدم لخطبة هنية، فيبارك هذه الخطبة وهذا الزواج، كلٌّ من العم والأب والأخ، وتُجبر القاصر هنية على التوقيع على قسيمة الزواج دون وعي لما يحاك حول مستقبلها ودون اعتبار لما تريد، وتظل الأم رافضة لهذا الزواج، غاضبة من هنية التي سرقت زوج أختها بعد وفاتها، غاضبة منها مدى الحياة، تصب عليها اللعنات والسباب ما عاشت، وهذه أولى القضايا التي تطرحها الكاتبة هالة البدري، في روايتها، فلا تشي بأكثر من قصة قاصر تحرم من الحلم ومن حق التعليم وتجبر على أخذ دور الأخت المتوفاة، كزوجة وكأم، لكن عودة الأحداث من هنية إلى قمر الزمان، الجدة الأولى المتوفاة منذ زمن، الغائبة الحاضرة منذ الفصل الثاني، تنبئ بالكثير من التحولات في صياغة الرواية.
رسائل خرجت من صندوق الجدة قمر الزمان، حتى صارت الحفيدة المختارة تسأل سؤالًا مشروعًا، هل تكون كاتشوك هانم، هي قمر الزمان الأولى؟
قمر الزمان هي الجدة التي تركت صندوقًا من الأسرار ورسوم الوشوم، يصبح مفتاحًا للألغاز فعالًا، عندما ينفتح الصندوق على يد الحفيدة أو الحفيدة المختارة من ذريتها، يقال إن قمر الزمان من الهناجرة، هربت من أهلها لتتزوج الجد الأكبر، علَّمت أبناءها السبعة فن الوشم، أمرتهم ألا يخرج هذا العلم للعلن إلا بعد وفاتها، وقد كان، انتشر علم الوشم هذا بين النساء من ذريتها وليس الرجال، إحداهن اعتبرته من فنون التاتو التي زاد الطلب عليها في هذه الأيام، فرضيت لها والدتها بممارسته مقابل المال تحت ضغط الحاجة وليس الاقتناع، فصار للتاتو أو الوشم صيت بين سكان القرية أولا ثم بين القاهريين أو سكان القاهرة، ليصير الوشم الذي ورثته بعض السيدات أو الفتيات، ربما هن جميعًا من ذرية قمر الزمان، صنعة لا تعي أسرارها، وهنا يبدأ “الهامسون” في شق طريق لهم عبر أجساد الفتيات، في شكل رسائل تحمل أسماء، لا أحد يعي ماذا تعني، لكنها أسماء تظهر كوشم على الجلد، أسماء تظهر وتختفي بعد أيام، لتظهر وشوم بأسماء أخرى، وأخرى، هي رسائل “الهامسون”، من أرادت الكاتبة أن تعيدهم إلى الحياة، بخيط روائي عبر وشم غريب أو الهمس الغريب على أجساد الفتيات.
أٌعدم إبراهيم الورداني وسبَّب ذلك حزنًا وغضبًا شعبيًّا كبيرًا، وهذا هو إبراهيم الورداني، يعود وشمًا وهمسًا لفتاة مصرية من حفيدات قمر الزمان الأولى، ليذكر الشعب المصري باسمه، إبراهيم الورداني، وإن همسًا أو على شكل وشم
وشوم بأسماء عربية، تظهر على جسد هنية الحامل، وربما هي حامل بتوأم، عفاف العروس التي على وشك أن تزف لعريسها، دميانة، وشما القبطيتين، تظهر على أجسادهن تلك الأسماء التي لا معنى لها، تظهر لأيام أو لساعات، ثم تختفي لتظهر من جديد، وقد تملأ كامل الجسد، حتى إن عفاف أجلت زفافها لعدة مرات حتى تختفي تلك الوشوم الغامضة من جسدها، لكل فتاة منهن قصة، كما هي قصة هنية القاصر التي حُرمت من حق التعليم وحق الاختيار، لكل من عفاف ودميانة وشما، قصة بأبعاد مختلفة أو الوشم الذي يختار أن يظهر على أجسادهن، يربط قصصهن بخيط منه سوف نعرف أنهن “الهامسون” الذين تستدعيهم الكاتبة من أزمنة مختلفة، أسماء عربية مثل سعد وإبراهيم وسليمان، أسماء لا معنى لها ولا تتعرف الفتيات أو من حولهن على سر تلك الأسماء، حتى تبدأ الأسماء في أن تتجسد كائنًا حيًّا، يعطي كلمته ويعلن نفسه ثم يختفي، وقد يختفي الوشم بعده أو لا يختفي، لكن الكاتبة هالة البدري تبدأ في إظهار المغزى من الوشوم، وسر الأسماء التي تظهر وتختفي، مع استمرار البحث والسؤال من بعض شخصيات روايتها، لنتعرف معًا على سعد المجنون، وسليمان المغدور.
جمعت الكاتبة هالة البدري، من تاريخ مصر الحديث نسبيًّا، أسماء وشخصيات أدت أدوارًا مهمة في بناء الشخصية المصرية اليوم، رغم المخاطر والتحديات
قمر، فتاه بسيطة هي إحدى حفيدات قمر الزمان الأولى، تبحث في أصل الحكاية، يتزوج جدها الكبير من قمر الزمان المنحدرة من الهناجرة، وهؤلاء جاؤوا من المغرب أو أنهم من منطقة العريش في مصر، لا أحد يعلم، لكن ساحرًا جاءت به عظيمة هانم الأرناؤوطي، والدة الزوج/الجد الأول، أخبر بأن الهالة المحيطة بقمر الزمان، عصية على قدراته، وأنها سوف تموت مقتولة -وقد حدث- ولكنها سوف تعيش طويلًا في بنات العائلة، هذا ما صرحت به الكاتبة هالة البدري على لسان قمر/الحفيدة، وقد تكون هي الحفيدة المختارة التي يفتح صندوق أسرار الجدة على يدها، وكذا الغموض الذي يعيشه قارئ “الهامسون” فيحاول اللحاق بما يحدث لفتيات العائلة الكبيرة، أو بعضهن، ممن صارت الرسوم/الوشوم تظهر على أجسادهن، تمامًا كما حدث مع قمر الزمان الأولى، وكان هذا سبب قتلها بالفعل على يد أخت زوجها خوفًا من عدوى الوشوم على من حولها، الزوج الذي أحب قمر الزمان حبًّا جمًّا، عاش معذبًا يرفض الزواج بعدها، والأخت القاتلة تبقى أختًا، ولكنها قاتلة الحبيب، فكيف السبيل إلى الخلاص من دوامته، لا خلاص إلا بالعيش على الذكرى وتربية الأبناء والبنات لتمتد الذرية من بنين وبنات حملن سرًّا لا يعرفنه، بل إنه عذبهن يوم أن خرجت الوشوم/الأسماء على جلودهن كما حدث مع هنية وعفاف ودميانة وشما، ويبقى صندوق الجدة لا ينفتح وتبقي الأسماء التي تظهر وشمًا، بلا معنى.
بعيدًا عن قصة الوشوم الغامضة التي انتشرت في المدينة، والتي صارت حديث الناس وشاغلهم، والتي جندت شرطة المدينة نفسها للبحث حول سرها ومغزاها، وقد اعتبرت أن الموشومات، قد يشكلن خطرًا أمنيًّا على البلاد، ويجب التحقيق معهن لتظهر الحقيقة بطريقة التحقيقات الأمنية التي لا ترحم، لكنها لا تجدي، ولا نعلم من الأمر شيئًا إلا مع فتح الصندوق الغامض، وظهور الرسائل والأوراق القديمة، ومنها ما يخص السيدة كاتشوك هانم، أشهر راقصات الغجر في منتصف القرن التاسع عشر، والتي أحبها عباس الأول، حفيد محمد على بك، لم يجرؤ عباس على قتلها لأنها استهانت به، وأهدت هداياه الغالية لصديقها البلطجي، أصدر الجد محمد علي فرمانًا بنفي عشرات الراقصات إلى منطقة إسنا، فتحولت إسنا إلى بلد الغوازي، تتجمع فيه فنون الرقص الشرقي، الرقص الخليع متمثلًا في رقصة النخلة، الرقصة الماجنة التي أتقنتها كاتشوك هانم، فكانت سر هيام الكثيرين بها، أشهرهم الكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير، صاحب رواية “مدام بوفاري“، وصديقه دو كامب من مارسيليا الذي صاحبه في زيارة مصر في زمن ذاع فيه صيت كاتشوك هانم ومنهم الأميركي جورج وليم كيرتس، وأما فلوبير، فقد كتب حول زيارته للشرق في رسائله إلى أمه، ضمنها كتابه “فلوبير في مصر”، وكان له الأثر الكبير في تصوير الشرق بالشكل الذي سار خلفه المستشرقون في رسومهم وكتاباتهم، حتى تكاد تكون رسوم الراقصة الشرقية التي ثبتها المستشرقون في تلك الحقبة، هي صورة لكاتشوك هانم، الراقصة الغجرية الفذة.
وكاتشوك هانم هذه، ليست شخصية من نسج خيال الكاتبة هالة البدري، ولكنها شخصية حقيقية، كتب عنها عدد من الكتاب والباحثين العرب ومنهم إدوارد سعيد، لكن الكاتبة هالة البدري، جاءت بحكاية كاتشوك هانم وفلوبير وأصدقائه، جاءت بهم في خضم الرواية، في شكل رسائل فلوبير وغيره إلى كاتشوك هانم، رسائل خرجت من صندوق الجدة قمر الزمان، حتى صارت الحفيدة المختارة تسأل سؤالًا مشروعًا، هل تكون كاتشوك هانم، هي قمر الزمان الأولى؟ التي قتلت على يد أخت زوجها، ثم تكتشف جريمة قتل أخرى في العائلة، بنفس الطريق، فهل هي كاتشوك هانم التي حيرت رجالات الفن والفلسفة في زمنها، تعود لتحير الحفيدات، ومعها كل هذه الأسماء الغريبة.
وأما الأسماء الموشومة، فقد اختارتها الكاتبة بعناية كبيرة، فسعد الذي ارتبط اسمه بصفة المجنون، إنما هو سعد إدريس حلاوة، المهندس الزراعي الذي احتجز الرهائن في المجلس المحلي، احتجاجًا على إقامة سفارة إسرائيلية في مصر، كان ذلك في فبراير 1980، اتهم بعدها بالجنون والاختلال العقلي، سعد هذا، هو أحد الذين ظهرت أسماؤهم في شكل وشم على جسد عفاف، وعفاف وخطيبها يجمعان أطراف الحكايات المتناثرة كقطع الفسيفساء، لحل الألغاز وفك شفرة الأسماء، حتى ظهر سعد بنفسه أمام عفاف، ليخبرها همسًا، أنه ليس مجنونًا.
كذلك إبراهيم، أحد الأسماء التي تظهر على جسم عفاف، تجسد أمامها ذات يوم في شرفة البيت المطلة على الحديقة، شاب عشريني، جاء في مظهر الشاب الأنيق القادم من مسافة زمنية تزيد على المئة عام، إبراهيم الورداني، أول من قام بعملية اغتيال سياسي في تاريخ مصر، وذلك باغتيال رئيس الوزراء المصري، بطرس غالي، على أثر الغضب الشعبي العارم بعد حادثة دنشواي 1906، والأحكام الجائرة التي صدرت من سلطة الاحتلال الإنجليزي في حق الفلاحين المصريين الشرفاء، أٌعدم إبراهيم الورداني وسبَّب ذلك حزنًا وغضبًا شعبيًّا كبيرًا، وهذا هو إبراهيم الورداني، يعود وشمًا وهمسًا لفتاة مصرية من حفيدات قمر الزمان الأولى، ليذكر الشعب المصري باسمه، وإن همسًا أو على شكل وشم.
سليمان أيضا، الاسم الذي يظهر في الوشم، ظهر كما ظهر إبراهيم وسعد، ظهر لعفاف، العروس التي تستعد لحفل زفافها، فتضطر لتأجيل حفل الزفاف المرة تلو المرة بسبب الوشوم على جلدها، هذه المرة، يظهر سليمان متجسدًا، وربما هامسًا باسمه الكامل “سليمان الخاطر” صاحب القضية التي شغلت الرأي العام العربي والعالمي 1985، جندي يحرس الحدود المصرية مع إسرائيل، حين تقدمت مجموعة من الإسرائيليين إلى الحدود المصرية، حاول منعهم، رفع السلاح في وجوههم، تقدموا أكثر، فقتل منهم سبعة، لتقوم الدنيا ولا تقعد، حكمت عليه المحكمة المصرية بالحبس خمسة وعشرين عامًا، نُقل من السجن الحربي إلى مستشفى السجن ليعالج من البلهارسيا، ثم أعلن خبر وفاته منتحرًا، وهذا ما كذَّبه أقرباؤه وأصحابه ممن شهدوا أيام المحاكمة والسجن لسليمان الخاطر، هذا هو اليوم يعود، في شكل وشم أو طيف أو همس في أذن فتاة مصرية، لا تنسونا.
جمعت الكاتبة هالة البدري، من تاريخ مصر الحديث نسبيًّا، أسماء وشخصيات أدت أدوارًا مهمة في بناء الشخصية المصرية اليوم، رغم المخاطر والتحديات، تلك الأسماء التي كانت لغزًا لفتيات الوشم، كما سمتهن الصحافة المحلية -بحسب الرواية- تلك الأسماء بدأت بسعد وإبراهيم وسليمان، لكنها لم تنته عند طه حسين ونجيب محفوظ وفرج فودة وخليل عبدالكريم وسيد القمني وعلي عبدالرازق والإمام محمد عبده والأفغاني وملك حفني ناصف وهدى شعراوي ونوال السعداوي وسميرة موسى ونبوية موسى ودرية شفيق وتهاني الجبالي وآخرين، وهنا تُقر الكاتبة هالة البدري بصوتها الخاص “هي أسماء مناضلين مستنيرين، طرحوا أفكارًا أصابت المجتمع بهزة وواجهوا أحكامًا قضائية، بعضها نُفذ وبعضها لم يُنفذ، منهم من قُتلوا، منهم من أصيب في أثناء محاولة قتله، ومنهم من نُفي ومن هاجر حتى وفاته”، وكأن البدري تكتب خلاصة روايتها، هؤلاء الهامسون، هم من رحلوا من المناضلين المستنيرين، علماء وفلاسفة وأصحاب فكر، هؤلاء يعودون إلى الأرض، بشكل ما، شكل وشم أو في شكل طيف هامس، ولسان حالهم جميعًا يقول، كما قال أحدهم لفتاة من فتيات الوشم: “اشحذي ذهنك، لا تضيعي أهلك الذين دافعوا عن وجودك، لا ترميهم في النسيان”.
** المصدر: مجلة “الجسرة الثقافية”. العدد 68