باب الوداع» … شباب السينما في مصر بين التجريب والتغريب

الجسرة الثقافية الالكترونية 

انقسمت قاعة العرض بعد انتهاء فيلم «باب الوداع» للمخرج كريم حنفي في أولى تجاربه السينمائية الطويلة وأولى مشاركاته ضمن برنامج المسابقة الرسمية في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته السادسة والثلاثين في الفترة من 9 وحتى 18 نوفمبر/تشرين الثاني، بين معجب بولادة تجربة جديدة نوعاً ما على السينما المصرية، وبين عدد من الجمهور استاء بشدة من غرابة الطرح الذي قدمه كريم حنفي على جمهور اعتاد تلقين الفنون واعتبار أي تجربة جديدة تكسر عاداته في المشاهدة، دربا من الجنون. لم يكن كريم حنفي هو أول من فتح هذا الباب بتجربته الاولى، سبقه عدد من الشباب في تجارب مماثلة من حيث كسر كل القواعد التي ارتبطت في ذهن الجمهور المصري، ومحاولة تكون ذائقه جديدة موازية للتطور الذي يشهده العالم، عندما قدم المخرج احمد عبد الله فيلم «ميكرفون» وهو تجربة ايضاً جديدة عن المعتاد، استقبل بحفاوة كبيرة من مهرجانات السينما الدولية ومن جمهور الشباب في مصر، وتبعها عبد الله بتجربته الأكثر تغريباً عن تقاليد السينما المصرية بفيلم «فرش وغطا» الذي انقسم الجمهور حوله ايضاً، وقدمت هالة لطفي فيلمها الروائي الطويل الأول «الخروج إلى النهار»، وأبهر الجميع نقادا وجمهورا، التكوين البصري للصورة واكتشاف جيل جديد من الممثلين غير المحترفين، لكنهم يملكون طاقة كبيرة قد تتطور مع الوقت وتثقلها الخبرات المتراكمة، وقبل كل هذه التجارب وغيرها الكثير، كان الصدام الأول الذي فتح الباب لهذا الجيل الذي سيبني على اكتافه تاريخا موازيا لصناعة السينما الاستهلاكية في مصر، كانت التجربة الأولى التي أعطت الثقة والحماس والإصرار على التمرد على كهنة السينما الذين لازالوا متمسكين ببقايا الأسلوب الكلاسيكي، الذي كان يبهرنا في الخمسينات والستينات، لكن البعض قد لا يفتنه هذا الأسلوب الحجري، خاصة ان انفتاح الشباب على السينما العالمية التي تجدد من أسلوبها في كل عمل تقدمه أكبر وأسرع من استيعاب كهنة السينما لها.
التجارب الأولى دوماً مليئة بالأخطاء لكنها أيضا تستحق كل التحية، والنظر اليها لابد ان يكون من خلال مفهومها وليس من خلال ما اعتدنا أن نشاهده او ننقده، «نحن جمهور جاهل في التلقي»، الجزء الأكبر الذي أزعج الجمهور بعد مشاهدة فيلم «باب الوداع» هي غرابة السرد البصري الذي اعتمده كريم طوال الفيلم، المشاهد الطويلة والمتقاطعة بين الماضي والحاضر أصابت الجمهور بالضيق، وهذا ما يريده المخرج، أن يجعل المشاهد جزءا من الحياة التي يعيشها ابطال الفيلم، بطء الإيقاع دلالة صاخبة على موت أبطال الفيلم، وهم على قيد الحياة، وتحررهم لم يأت إلا بالموت، ويؤكد كريم عبر ثلاث شخصيات هي الجدة التي ترمز الى الماضي البعيد التي تنغلق عليه وتنفصل عن واقعها حتى يأتي الموت فيحررها، وشخصية الأم التي تمثل الحاضر، وتقرر أن تنهي حياتها معنوياً بعد وفاة زوجها، وشخصية الأبن الذي يرمز الى المستقبل، وينتهي كريم الى فتح نافذة أمل ربما كان اختيارا شخصيا من المخرج أن يحرر الطفل نفسه ويختار ان يخرج من باب الوداع الى الحياة، في مشهد النهاية الذي جمع بين صورة الابن في طفولته، الذي خرج منطلقاً بأحلام الطفولة الى الحياة، وبين صورته وهو شاب يخرج متردداً أقل خطوة وأكثر خوفاً مما ينتظره.
هل هو صراع بين الأجيال الثلاثة، أم هو صراع الإنسان مع الزمان، والمكان، وهل الإنسان يتحرر بتخلصه من ذاكرته وماضيه، عندما تثقل كاهله تلك الذكريات ام ان يتخلص منها ويخرج من هذا الباب، أو يستسلم لها كما حدث مع شخصية الجدة التي غرقت في ذكرياتها، وشخصية الأم التي قدمتها الفنانة الشجاعة سلوى خطاب، غرقت هي أيضاً ولكن في فظاعة ما يسمى بالعادات والتقاليد والخرافات التي نسجها العرب حول المرأة، وحصرها في دور الخادمة والأم، التي تعيش من أجل رجل واحد، بعد أن مات، ماتت معه أحلامها، المشهد الذي تنظر فيه الى نفسها في المرآة بعد وفاة زوجها ترى جمالها وشبابها وصمة عار لها فتقرر اعدام انوثتها ودفنها مدى الحياة.
الحرية هي اختيار بشري، أما ان تتحرر بإرادتك او تفني حياتك في انتظار من يحررك، الفيلم يميل الى التجريب في الأسلوب والتغريب في الصورة في الوقت نفسه، لكنه ظل يحوم حول الانتماء الى أسلوب فني محدد لم يصل اليه لكن الفكرة وصلت في العشر دقائق الأولى للفيلم وانتهى حماس المشاهد، الفيلم لا يمكن تصنيفه بالفيلم التجريبي ولا يمكن إيداعه في خانة الفيلم الروائي، بل اعتباره حالة فنية خاصة لصورة حياة مليئة بالشجن، او حلم مخرج شجاع أراد ان يقدم رؤيته بأسلوب خاص، يدافع عنها من دون ان يحسب رد فعل الجمهور الذي عليه ان يدرب ذائقته دائماً على تلقي انوع مختلفة من الأسلوب والسرد البصري، وقد تتطور تجربة كريم او غيره من المخرجين المجددين في السينما المصرية مع الوقت او تهدم، الأهم من تجربة كريم حنفي هو صدمة الجمهور الأولى التي ربما تتطور مع الوقت وتنضج الى استيعاب مشاهدة التجارب الجديدة رغم اختلافنا على نضج مستواها الفني.

………………

القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى