خوان غويتيسولو «الطائر المنعزل» يحصد جائزة «سيرفانتيس» في الآداب الإسبانية

الجسرة الثقافية الالكترونية
#محمد الخطابي
أخيرا، وبعد عدة ترشيحات منذ سنوات عديدة خلت، امتطى الكاتب الإسباني الذائع الصيت صهوة جائزة «سيرفانتيس» الإسبانية لعام 2014 (أعلنت نتائجها يوم الاثنين 24 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري 2014) التي تعتبر بمثابة نوبل في هذه اللغة الواسعة الانتشار.
وتشرف على تنظيم هذه الجائزة المهمة كل سنة، وزارة التربية والثقافة الإسبانية، وتبلغ قيمتها المادية (125000) يورو، هذا وسيتم تنظيم مراسيم تسليم هذه الجائزة في 23 أبريل/نيسان 2015 بجامعة ألكلا دي ناريس (قلعة النهر) بالقرب من مدريد، حيث يصادف هذا التاريخ ذكرى وفاة الكاتب الإسباني المعروف ميغيل دي سيرفانتيس، الذي تحمل الجائزة اسمه، وصاحب الرواية الشهيرة «دون كيخوته دي لا منشا»، (أنظر مقالي في «القدس العربي» حول هذه الرواية تحت عنوان:«دون كيشوت لسرفانتيس.. رحلة في عالم الأحلام المنشور بتاريخ 10 سبتمبر/أيلول 2013) .
وصرح وزير الثقافة الإسباني خوسيه إغناثيو ويرت بأن خوان غويتيسولو قد تم اختياره بعد سبع جلسات من التصويت، وأنه حصل على هذه الجائزة نظرا لمقدرته الخارقة في تطويع اللغة وتحقيقاته اللغوية العميقة واستمرار التزامه ودفاعه الدائم عن الحوار بين الثقافات.
وصرح الكاتب خوسيه مانويل كابايرو، رئيس لجنة التحكيم التي منحته هذه الجائزة الكبرى وحاصل على الجائزة نفسها عام 2012: «هذه الجائزة التي حصل عليها غويتيسولو جاءته في الوقت المناسب وبكل المقاييس، إذ يعتبر هذا الكاتب واحدا من قمم وروائع الأدب الإسباني غداة الحرب. وقد تطورت أعماله الأدبية من الواقعية الاجتماعية، إلى مباحثه وتساؤلاته وتحقيقاته وتضلعه في اللغة.
وصرحت الكاتبة المكسيكية إلينا بونياتوسكا، الحاصلة على الجائزة نفسها لدورة العام الفارط 2013 وعضو لجنة التحكيم كذلك: «أن حصول خوان غويتيسولو على هذا التكريم يشكل حفلا أدبيا كبيرا، فنحن في المكسيك نعرف هذا الكاتب منذ أن كان شابا في مقتبل العمر، حيث كان يتردد كثيرا علينا لزيارتنا، كان صديقا حميما للكاتب المكسيكي الراحل كارلوس فوينتيس، إنه كاتب يربط ويجمع ما بين الضفتين الإيبيرية والأمريكية»، ولا شك بين ضفتي المتوسط وشمال افريقيا وتحديدا المغرب».
وتضيف بونياتوسكا: «إنه رجل جدير بالثقة لأصالته»، وأردفت مازحة: «أستطيع القول إنه أصيل مثل دوقة الفجر «دوكيسا دي ألبا» (المتوفاة مؤخرا وهي المرأة الأرستقراطية الإسبانية الفاحشة الثراء التي تنحدر من أسرة «ألبا» الشهيرة والتي لا يفوقها أحد في إسبانيا في عدد الألقاب العريقة التي تحملها)، (أنظر مقالي حول هذه الكاتبة المكسيكية في « القدس العربي» بتاريخ 23 مايو/ أيار 2013) .
من ابن عربي وابن حزم إلى اليوم
يعتبرالأديب خوان غويتيسولو من أبرزالكتاب الإسبان في الوقت الراهن، لما يمتاز به من صوت أدبي متفرد بين باقي الأدباء الإسبان، ولنوعية كتبه ورواياته المتعددة، التي أثارت جدلا ما زال يسمع صداه إلى الآن ليس في إسبانيا وحسب، بل في مختلف الأوساط الأوروبية والأمريكية لجرأتها وخاصيتها وإشكالية الإبداع فيها، التي تنطلق من التعامل مع اللغة من منظور تفجيرها وتفكيكها وتغيير مسارها، وإعطائها نفسا وزخما إبداعيا خلاقا. كما انه يعتبر مثالا للاستقلال الفكري والثقافي، وممثلا للتجديد في الأدب الإسباني المعاصر.
يقول غويتيسولو في معرض إعجابه بالمسلمين وتراثهم وحضارتهم ولغتهم: «إن استيعابي وتمثلي للفضول الأوروبي الشره، جعلني أتحول شيئا فشيئا إلى مواطن إسباني من نوع آخر، عاشق لأنماط الحياة والثقافات واللغات من مختلف المناطق الجغرافية.
لا ينحصر عشقي وإعجابي وولهي بكيبيدو، أو غونغورا، أو ستيرن، أو فولتير، أو مالارميه، أو جويس، بل يتعداه كذلك إلى ابن عربي وأبي نواس، وابن حزم، وإلى التركي جلال الدين الرومي مولانا.
هناك عوامل إيجابية، وطاقات إبداعية هائلة مختلفة من كل نوع لهؤلاء وأولئك على حد سواء، فعندما يكلف المرء نفسه عناء تعلم لغة صعبة جدا مثل اللغة العربية، وقد جاوز السبعين من عمره، فإنه ينبغي أن تكون هناك دواعٍ عميقة جدا لذلك (الكاتب الأرجنتيني المعروف خورخي لويس بورخيس قرر تعلم اللغة العربية كذلك عندما ناهز سنه الثمانين) والحقيقة أن الدواعي موجودة.
فأنا أعتقد أنه يستحيل فهم الثقافة الإسبانية وهضمها بشكل شامل ودقيق بدون استيعاب التراث الإسلامي، ومعرفة الثقافة العربية، وكلما دخلت في هذه الثقافة، تأكد لي بشكل جلي قيمة وأهمية ما ورثناه عن تلك القرون للوجود الاسلامي في شبه الجزيرة الايبيرية».
ويردف الكاتب قائلا في السياق نفسه: «هناك من ناحية أخرى جانب المودة في العلاقات الإنسانية التي انعدمت في المجتمع الأوروبي الذي أعيش فيه وأنتمي إليه، ففي مدينة مراكش، على سبيل المثال، يمكنني أن أكتب وأن أقرأ، كما يمكنني في الوقت ذاته الخروج للنزهة والتحدث إلى الناس البسطاء، وليس مثل ما هو عليه الأمر في باريس ونيويورك اللتين انعدمت فيهما العلاقات الإنسانية وتلاشت».
ويشير غويتيسولو إلى:»أنه يشعر بتعاطف كبير نحو الثقافة الاسلامية، فقد قرأ نصوصا دينية إسلامية كثيرة، وهي نصوص تهمه جدا، إنه يقرأها مثلما يقرأ أعمالا لماغلان، أو ابن عربي المرسي، أو سان خوان دي لاكروث، بمعنى أنها تبدو له وسيلة تعبير أدبي راقٍ جدير بالإعجاب والتقدير».
إعجابه بالحضارة الإسلامية
ما فتئ غويتيسولو يثير ردود فعل متباينة في الأوساط الأدبية والثقافية الإسبانية، بكتبه أو مقالاته أو تصريحاته التي لا تخلو من نقد لاذع للمجتمع الاسباني والمثقفين الإسبان بشكل عام، ورميهم بروح الانغلاق وعدم تفتحهم على ما يدور حولهم من تظاهرات وتحركات ثقافية خاصة لدى جيرانهم العرب.
ولايزال هذا الكاتب يثير هذا الموضوع في مختلف محاضراته أو تصريحاته في كل محفل ومنبر، نظرا لما يربطه بالعالم العربي من أواصر المودة والإعجاب، حيث تحتل مدينة مراكش بالذات حيزا مهما في أدبه وإبداعاته الروائية، وبالخصوص روايته المعروفة «مقبرة» أو في سيرته الذاتية «منطقة مسيجة محظورة» أو في سواهما من المقالات والدراسات حول الثقافة الإسلامية أو الحضارة العربية، مثل كتابه «إسبانيا في مواجهة التاريخ.. فك العقد»، وحول الدور الكبير الذي اضطلع به المسلمون خلال وجودهم بالأندلس وإيمانه القوي في مقدراتهم الابداعية وعطاءاتهم الثرة في مجالات العلوم على اختلافها وفي حقول الآداب والشعر والفكر والفلسفة والموسيقى والمعمار، وحول التقارب الذي ينشده بين العرب وإسبانيا بحكم العوامل التاريخية والحضارية والجغرافية، ودعوته المتواصلة إلى إسدال ستائر الحقد والضغينة، وإزاحة حجب التجاهل والتنافر والتنابذ، والتعرف عن قرب على ما يجري في البلدان العربية والإسلامية من غليان فكري ونهضة ثقافية وتطور حضاري في مختلف الميادين.
إن المتتبع للصحافة الاسبانية في الآونة الأخيرة، يلاحظ مدى ما يثيره هذا الكاتب من موضوعات فكرية وثقافية لا تخلو من شجاعة أدبية وإنصاف محق للمسلمين والشهادة لهم بمواكبة التيارات الفكرية المعاصرة واتهام بني طينته الإسبان بالقصور في هذا المجال. كما أنه معروف بمناصرته ودفاعه عن قضايا الإسلام والمسلمين، والقضية الفلسطينية. وإليه يؤول الفضل في أن تصبح» ساحة جامع الفنا» الشهيرة بمدينة مراكش تراثا إنسانيا شفويا لا ماديا من طرف منظمة اليونسكو العالمية منذ 18 أيار/ مايو 2001 .
تعدد وتنوع الثقافات
يدافع الكاتب خوان غويتيسولو دائما عن مغزى التداخل والتكامل الثقافيين، عكس ما يحدث في إسبانيا في الوقت الراهن، من ميول إقليمية وانفصالية منكمشة ومنغلقة على نفسها، إلا أن غاية تدخلاته وتصريحاته في هذا القبيل لم تكن مفهومة بما فيه الكفاية.
إنه يشير في هذا الصدد، إلى أن الدفاع عن التعدد الثقافي والتنوع الفكري أو تعدد قنوات الثقافات القائمة في محيط بلد ما شيء، وإقامة حواجز بين هذه الثقافات وتصنيفها في حيازة فرضيات ذات مضامين معينة وطنية أو محلية شيء آخر مخالف للسابق. إن ثقافة من هذا القبيل منكمشة على نفسها لهي ثقافة منكرة لوجود سواها من الثقافات وإشعاعاتها، فالتزوير المتعمد للماضي التاريخي وتشذيب أو حذف أو التغاضي عن كل ما هو أجنبي من الثقافات، من شأنه أن يفقر أو يفسد الحقيقة في حد ذاتها. كما أن ذلك يشكل حاجزا يقف حجرعثرة في سبيل التداخل المتناغم للثقافات. إن المثال الأعلى للفكر التعددي هو أن يكون فكرا متقبلا ومفتوحا خلاقا. وانطلاقا من هذا المفهوم، فإننا نورط أنفسنا ونجعلها تغير موقعها الحقيقي من تاريخ إسبانيا.
إن النية المبيتة التي تجرد جميع تلك المعطيات من عناصرها الصالحة بشكل تعسفي لهوية وطنية ما، لهي نية تتسم بنظرة ضيقة وهامشية ومنغلقة، ذلك أن تاريخ أي شعب إنما هو خلاصة التمازج الحضاري والتأثيرات الخارجية التي استقبلها وهضمها، وإسبانيا خير مثال للبلدان التي استفادت بشكل إيجابي مباشر وكبير من الحضارة العربية الإسلامية التي تألقت، وازدهرت، وبلغت أوجها فوق ترابها زهاء ثمانية قرون ونيف، بالعطاءات الثرة والخلق والإبداع في مختلف مجالات الحياة التي ما زالت تطبع الحياة الإسبانية، وتميزها عن سواها حتى اليوم .
حياته وأعماله
ولد خوان غويتيسولو في برشلونة عام 1931، وبدأ يكتب القصص والروايات منذ كان عمره 23 سنة (عام 1954). وتحمل أولى رواياته عنوان «لعبة الأيدي» التي وضعته في مصاف كتاب الواقعية السحرية غداة الحرب، استقر في باريس منذ عام 1956، وبعد أن انتقل بين كوبا ومدينة ألميرية الإسبانية، بدأ في كتابة نوع جديد من الإبداع الروائي الذي سوف يتميز به منذ ظهور روايته الشهيرة «علامات هوية» عام 1966 التي يقدم فيها نظرة مضضٍ وتقززٍ عن إسبانيا على عهد الجنرال فرانكو على لسان «ألفارو ميننديولا» الذي كان في الواقع يعبر وينطق باسم الأنا الآخر للكاتب نفسه.
ومنذ أوائل الثمانينات من القرن المنصرم انتقل خوان غويتيسولو لإقامته الدائمة التي حددها بين مديني باريس ومراكش، حيث استقر بصفة دائمة في المدينة المغربية منذ عام 1996، والتي أهداها روايته الكبرى «مقبرة» (1980)، ومن أعماله الأخرى: «الإشارات»، و»صراع في الجنة»، و»السيرك» و»الجزيرة» و»نهاية الحفل» و»عناوين هوية» و»دون خوليان»و»خوان بلا أرض» و»فضائل الطائر المنعزل» و»أسابيع الحديقة» و»ستارة الفم» و»في ممالك الطوائف» (مذكرات) وسواها من الأعمال الإبداعية الأخرى مثل «لمحة بعد المعركة»، و»ملحمة ماركس»، و»موقع المواقع»، حيث تمتزج في هذه الأعمال جميعها هواجس الحياة وتداخل الأزمنة وتوارد وتواترالأصوات، والتصوف والأبيات الشعرية العائدة لأرثيبيستي دي هيتا، وإشكاليات الهجرة وتطور اليسار بعد سقوط جدار برلين، وحرب البلقان والعالم العربي والإسلامي.
يضاف إلى ذلك أعمال شكلت سيرته الذاتية أو مذكراته مثل «منطقة محظورة»، ومن أشهر كتبه في العالم العربي هو كتابه المترجم للغة العربية إسبانيا في مواجهة التاريخ.. فك العقد حيث يدافع فيه عن الثقافة العربية، ودورها في التقريب بين الشعوب وسواها من الأعمال الإبداعية الاخرى.
وهو حاصل على جائزة «فورمينتور»الدولية الأدبية لعام 2012 ، وكذلك على أكبر جائزة أدبية في أوروبا، وهي «أورباليا» التي تمنح ببروكسيل، والتي تعتبر بمثابة نوبل في الآداب الأوروبية، وعلى جائزة «أوكتافيو باث» في الآداب، وعلى جائزة «الأدب الأمريكي اللاتيني والكرايب خوان رولفو»، وعلى «الجائزة الوطنية للآداب الإسبانية» وجائزة «بلانيطا» الإسبانية كذلك، بالإضافة للعديد من الجوائز الأدبية الرفيعة الأخرى في مختلف بلدان العالم.
ومنذ عام 2007 أصبحت المكتبة التابعة لمعهد سيرفانتيس بمدينة طنجة تحمل اسمه تكريما له ولإبداعاته المتميزة. وتمنح جائزة «سيرفانتيس» الادبية الكبرى بالتناوب لكتاب من إسبانيا وبلدان أمريكا اللاتينية الناطقة باللغة الإسبانية، ومن الأدباء الكبار الذين حصدوا هذه الجائزة: خورخي لويس بورخيس، وماريا ثامبرانو، وكاميلو خوسيه ثيلا، وماريو برغاس يوسا، ( كلاهما حاصلان على نوبل في الآداب كذلك) داماسو ألونسو، كارلوس فويتنتيس، أليخو كاربنتير، رفائيل ألبرتي وآخرون.
…………
القدس العربي