الشاعرة القطرية سميرة عبيد تعزف الحانها باصابع مبتورة /بقلم عيسى ابو الراغب
الجسرة الثقافية الالكترونية
اعداد / عيسى ابو الراغب
قد يكون من الحنكة اختيار عنوان يشد القارئ بقوة إلى البدء بفك اسبار الكتاب وليس الأمر تقليبا للورق بقدر ما هو الإمساك بالسر الدفين الذي أودعه الكاتب
يتجلى هذا الأمر في لحن بأصابع مبتورة للكاتبة سميرة عبيد بإصدارها عن دار فضاءات / الأردن
فبعد أن أرخت عطر أساورها في (أساور البنفسج ) تعود متأنقة تعزف ورغم الأصابع المبتورة نجد أنها تُكون اوركسترا ذات جمال في لحنها ،حيث أن الكاتبة عبيد تدخل في تجربة شعرية تخلق فيها وافر الدهشة وتقيم زلزالا فلا تبقي للكلمة بنيات إلا أعادت لها تقويض ثم بنيات تكويني خاص بها
فهي تركن في هذا الديوان إلا أمرين أثقال الجسد ، واللحن المتفرد في الروح وتحاول مزجهما في بوتقة عطر واحدة
فهي ترسم أحلامها المؤجلة وتمدها للمدى البعيد في هذا الوجود المكاني والزماني وتبرز الروح المتوهجة وترسلها دفقات من شعر مدهش
وفي أحيان أخرى نجدها تحاور الذات الإنسانية متقمصة الروح لكل فرد لتخرج له لحنا خاصا
..
وكأننا نلاحظ في فك سرها ومعمارها التكويني في القصائد أنها تعترف بكل التبديلات والتكوينات والتناقضات والتشكيلات في هذا الكون فهي لا تُعمي بصرها وبصيرتها عن ما يكون بل هي تحمل أزميلها وتقيم تابوت الموت للميتين ثم تقيم عرش الفرح للإحياء الباقين وتكمل المسير /
برعت الكاتبة عبيد في رسم وهج الامتداد الفني للمعنى ووجدت اتساع مباح للصورة مع المحافظة على خصوصية وافرة لها
الكاتبة عبيد كمن يستكشف البعيد فهي أنزلت إسقاط الصحراء وضمتها بين كفيها وعزفت لحنها لتحول الرمال الجرداء آلة ماء واخضرار
وفي منحى أخر نجد سخرية لا حد لها فيها من الاستفزاز والعناد الكثير لتوصل فكرتها كما يجب وتلك حنكة تصب في ميزان الكاتبة فهي لماحة / ذات بصيرة ترصد الحدث من بعد قصي كزرقاء اليمامة
والمتتبع للحروف لا بد أن يكون بشعور القلق في بعض الجهات والتي أودعته الكاتبة وهذا ليس قلقا أدبيا بقدر ما هو قلق شعوري لإيصال القارئ للحد البعيد من المعنى وليكن لكل قارئ رؤاه وافقه الخيالي البعيد
واحتوت جميع النصوص على لغة شعرية مرهفة كيف لا وهي الحان وذاكرة توثق بكل تبصر ودعونا ندس في حاضرة الروح منا بعض مقتطفات
جسد الرحيل
يمضي بي إلى أشواق تعبة
تخرب صلابة الأظافر
تتلو ما تبقى من ولهي
لا دمع يشرب حزني
لا نداء يسمع رقصتي الأخيرة
هنا أجادت الكاتبة بإن جعلت الرحيل جسدا وليس روحا
وأوثقت الشوق الشعوري في أصل الروح
وتبدأ بسرد شعورها المتعب وتظهره في قولها تخرب صلابة الاضافر )وتعطي دلالة على التعب ثم تبدأ بإظهار أحوال الروح
وهنا تتضح وفرة الحنكة الأدبية لدى الكاتبة بقولها
تقوس الحلم من شدة شموخ نخلة
الروح تتوهج في الشوارع الضيقة للفرح
فكلمة تقوس الحلم عناية وإشارة للعمر والتعب ورغم هذا إصرار على الشموخ والتشبيه بالنخيل الباسق المعتلي
ثم ترجع بعودة ميمونة ولكن بدون إرهاق إلى الروح فهي حاضرة الإصرار بالتوهج فمهما ضاقت المساحات والأفاق فهناك للفرح مكان وهي رؤية الحياة من كل جانب
تستحيل أحزاني لهيبها المتبقي
من وحدتي
وحتى نكون بحق فنحن لا نقرا النص مقسما فهو وحدة جسد مكتملة ولكن حتى نظهر باطن السر الدفين ففي الاستحالة رفض مؤكد للحزن رغم وجودها وتلك هي حكمة يتناولها كثير من الكتاب حتى يبقوا على خيط التوازن في الحياة
وكلمة من وحدتي لا تعني الانفصال والانعزال بقدر ما تعني قدرة الارتقاء في حاضرة الروح المتوحدة بكل تناقضات الحياة من حزن وألم وفرح
أعزف خرسي كي يسمعه الناجون من الحرب
وفي قفصي الصدري كبوة ثلج تحرق صمتي
وفي مقطوعة لحنها الأخرى
تدخل القارئ لا ريب في حيرة وانحسار ثم تطلق له العنان من قيد الحرف الغير جارح
بقولها (اعزف خرسي )
فكيف للخرس أن يعزف وهو بلا صوت ولكن أليس على هذه الأرض ما يستحق الحياة فقد دخلت الكاتبة إلى عمق الحياة والقدرة على البقاء فأصرت أن خرسها لا يعيقها عن العزف بإلحانها
ولعل توهج هذا المقطع يظهر جليا في(كي يسمعه الناجون من الحرب )
فتلك الحرب التي أورثت الموت والدمار والعائدون منها أحياء يزرعون الأرض ويخرجون الماء
ولعلي هنا أقول متمينا بقول
دعونا نسقط حرب الراء من بعد الحاء وقبل الباء ونقيم ممالك الحب ولعلنا في هذا نحول صحراء الرمال إلى جنان نحيا فيها بكل أمل وفرح
ومقطوعة أخرى تفردت بها ولا ريب الكاتبة عبيد
وفي قفصي الصدري كبوة ثلج تحرق صمتي
قفص صدري يحمي القلب من الصدمات ويرتفع ويهبط بالأنفاس التي حينها نعبر فيها عن الحياة
ونبقى بعزف ولا نموت
وفي ما ورد وننهي فيه يمكننا القول أن الهدف دوما من اكتشاف الحرف والتفكيك والتشريح ما هو إلا الكشف عن الدلالات العميقة الراسخة الداخلية للقصيدة أو النص الأدبي والذي ينتمي بأصله إلى بنية خارجية بنكهة وطعم الحرف وهذا يهدينا سبلنا إلى أن نتعرف على مرجعيات ووقائع النص واللغة المتحركة أحيانا بانزياح وأحيان أخرى إسقاطات وأحيان بدلالات خيالية
ومن ثم التعرف على ما امتلك النص أو الجنس الأدبي من التقنيات والإضافات الفنية التي تسهم ولا ريب في إضفاء حالة جمالية للجسد البنيوي للجنس الأدبي والنص الكتابي
ولعل أفضل طرق الكشف هي أن يكون للقارئ القدرة على التأويل المربوط بروح الكاتب فحينها يمكننا أن نوثق الحالة تميزا ويكون للقراءة فعالية وان يسقط القارئ نفسه في كل حرف ليكون المجمل جسد واحد لا يمكن فصله فان أصاب حرف الم أسنده حرف الأمل والفرح ويبقى الحرف كطائرة طوافة قادرة أن تهبط في كل مكان ولكن القبطان من يحدد مدة المكوث في المكان والزمان
وهذا ما كان في الحان في أصابع مبتورة
هذا ما كان لديوان الكاتبة سميرة عبيد الثاني
هدفها الكشف عن الدلالات العميقة الثاوية في البنية الداخلية للقصيدة والتي تنتمي ضرورة الى بنية خارجية اكبر منها، ولاتُغيِّبُ القراءة في مراحلها الأخيرة رصد تأثير مرجعياتها الواقعية على تلك البنية الداخلية، فضلاً عن تشخيصها للتغييرات التي طرأت على المراجع بعد أن تحوّلت الى دوال في عالم القصيدة اللغوي المتخيَّل