عودة إلى جماعة “أنا شارلي”

الجسرة الثقافية الالكترونية

*زكي بيضون 

المصدر: العربي الجديد

 

بينما اكتفى التنويريون العرب بالنقل الببغائي لمقولة “أنا شارلي”، انتقد بعض المثقفين الفرنسيين الشعار من دون أن يكون لهم أي اعتراض على حق رسامي الكاريكاتور بالتجديف والسخرية من الرموز الدينية الإسلامية، إنما يأتي تحفّظهم على الشعار من موقع مغاير تماماً.

وكي نفهم وجهة نظر هؤلاء، لنلق نظرة على حكاية المجلة مع الإسلام، من تفجيرات برجي نيويورك إلى التهكّم على تطرّف بوكو حرام.

بحسب أوليفييه سيران، وهو صحافي سابق في شارلي إيبدو، بدأ تركيز المجلة على الإسلام مع أحداث 11 سبتمبر 2001؛ إذ تحولت، على يد مديرها فيليب فال، المتعصب لإسرائيل، والقريب من برنار هنري ليفي وكلود لانزمان، إلى بوق فعلي للّوبي الإسرائيلي في فرنسا يعمل على الترويج للدولة العبرية بوصفها جزيرة من الديمقراطية والتحضّر مهددة في محيط من البربرية الأصولية الإسلامية.

في هذا السياق التوظيفي، يأتي تبنّي المجلة لقضية رسوم الصحيفة الدنماركية عن النبي محمد وإعادة نشرها. ولنأخذ مثلاً الكاريكاتور الذي يظهر فيه النبي محمد عابساً وعلى رأسه قنبلة. هناك فرق جوهري بين رسم يصور رمزاً دينياً عارياً أو في أوضاع حميمية حرجة، وبين آخر يصوره على رأسه قنبلة في إحالة واضحة إلى السياق الراهن.

سرّبت المجلة عنصرية طبقية موجهة إلى مجتمع المهاجرين

الأول يندرج في إطار الكاريكاتور التجديفي وهو جزء من الثقافة الفرنسية، أما الثاني فيندرج في حملة التحريض على أقلية مهمشة صارت بعد أحداث 11 سبتمبر موضع ارتياب واتهام في المجتمعات الغربية. الكاريكاتور المعني يحيل مباشرة إلى الخطاب الإسلاموفوبي الذي يعتبر الإسلام ديناً إرهابياً ويفترض أن كل المسلمين هم إرهابيون، بالقوة أو بالفعل.

بهذا الصدد، يقول المؤرخ الفرنسي الإسرائيلي شلومو ساند إنه لا يمكن حتى تخيّل أن يجرؤ رسام كاريكاتور غربي اليوم على تصوير النبي موسى بوصفه مُرابياً جشعاً يأكل أموال اليتامى والمساكين، مع أن ذلك لا يختلف من حيث المبدأ عن تصوير النبي محمد بوصفه إرهابياً.

في عهد فيليب فال، تبنت المجلة كذلك قضية “شهيد” آخر لحرية التعبير وهو الرسام الهولندي غريغوريوس نيكشوت (عدد 11 حزيران/ يونيو 2008). لنلق نظرة على رسومه التي دافعت عنها المجلة بلسان مراسلتها كارولين فورست، نرى في إحداها إماماً في زي بابا نويل ينكح عنزةً وفوقه عبارة: “يجب أن نعرف كيف نتشارك التقاليد”. وفي رسم آخر يظهر عربي جالس وهو يتساءل: “ألا يقول القرآن إن كان علينا أن نفعل شيئاً كي نحصل على ثلاثين عاماً من تعويضات البطالة والإعالات الاجتماعية؟”.

في الحالتين، لا يحضر الإسلام إلا بشكل هامشي. في الرسم الأول يعبّر زي بابا نويل المبهج عن تقاليد الحضارة الغربية في مقابل الكليشيه الاستعماري للعربي البدوي الذميم ناكح الجمال والعنزات. أما الرسم الثاني فيحيل إلى العنصرية الطبقية التي تنظر إلى المهاجرين بوصفهم طفيليين كسالى يعيشون على حساب المجتمع.

يتجلّى نفاق فال بشكل صارخ في حادثة طرده لأحد أبرز أقطاب مجلته، موريس سيني، من أجل تغريدة كتبها هذا الأخير قال فيها إن جون ساركوزي، ابن الرئيس الفرنسي السابق: “أعلن للتو عن رغبته باعتناق اليهودية قبل زواجه من خطيبته اليهودية وارثة مؤسسي “دارتي”. هذا الصغير سيشق دربه في الحياة!”.

يندرج الحق بالتجديف ضمن الفهم الفرنسي لحرية التعبير 

اعتبر فال أن العبارة معادية للسامية، وهو اتهام لا يمكن أن يصدر إلا عن عقل مصاب بعقدة الاضطهاد (البارانويا). عام 2009، غادر فال وفورست المجلة ليتولى إدارتها “شارب” (ستيفان شاربونييه) المناصر للقضية الفلسطينية.

وتحت إدارته، كفّت المجلة عن الترويج الدعائي للسياسة الإسرائيلية، كما صارت معظم الكاريكاتورات عن النبي محمد والإسلام، على الأقل في محتواها المباشر، تندرج في إطار التجديف الكلاسيكي.

مع ذلك، استمرت الزلّات الإسلاموفوبية والعنصرية بالظهور من وقت لآخر على صفحاتها. لنأخذ مثلاً غلاف عدد 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2014 الذي يعلّق على خبر اعتراض “عبدات الجنس” الحوامل لدى بوكو حرام على انتزاع أبنائهن منهن.

في أعلى الغلاف، نرى عبارة “عبدات الجنس لدى بوكو حرام غاضبات” وتحتها نساء حوامل سوداوات ذميمات ومحجبات، بلا أسنان تقريباً وفي ثياب رثة، يضعن أيديهن على بطونهن ويصرخن “ارفع يدك عن معوناتي الاجتماعية”. الإشارة هنا واضحة إلى الكليشيه العنصري الطبقي لنساء الضواحي الأفارقة والمغاربة، اللواتي يدّعي اليمين المتطرف أنهن ينجبن الأولاد من أجل المعونات الاجتماعية.

أمام هذه المعطيات، يصبح من الطبيعي أن يعبّر العديد من المثقفين الفرنسيين، مع إدانتهم البديهية لجريمة وحشية تستهدف حرية التعبير (الحق بالتجديف تحديداً) ولا يمكن إعطاؤها أية مبررات تخفيفية، عن تحفظهم على شعار ملتبس يمكن تفسيره أنه يدعو المجتمع الفرنسي إلى التماهي مع المجلة ويجعل من نتاجها رمزاً لحرية التعبير.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى