بلاغة الصورة الشعرية في شعر محمد داود (بقلم عيسى ابو الراغب )

الجسرة الثقافية الالكترونية

– خاص –

  النص الشعري  المرتكز على أعمدة أدبية حقيقية  يمكن أن نعنونه بكلمة واحدة وهي البقاء  فهناك بعض النصوص الشعرية  بما تحمل في طياتها  تبقى في الذاكرة الشعرية والزمنية  ولا تعترف بحدود المكان  فهي  تحمل في جدرانها  ما لا يتقدم بالهرم والعمر   ولا تحدث أصداء تزول بل تبقى وافرة الحضور ويبنى هذا الأمر على القدرة على إقامة سياق لنص شعري وافر المحكات  ووافر الحداثة والأصالة  ويوفر وقفات شعرية  قوية  وتدوير للكلمات  بقدرة أدبية كبيرة ويخرج عن الممارسات الاعتيادية
ويرسل عبر النص الشعري ما يؤمن فيه وخاصة إن كان صاحب قضية  تعتبر القضية المركزية الكونية  التي طال بها الحال / ولفها الحزن من كل حدب وصوب  والبكاء فيها مرير

بكيت.. حتى انتهت الدموع
صليت.. حتى ذابت الشموع
ركعت.. حتى ملني الركوع
سألت عن محمد، فيك وعن يسوع
يا قدس، يا مدينة تفوح أنبياء
يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء
يا قدس، يا منارة الشرائع
يا طفلةً جميلةً محروقة الأصابع
حزينةٌ عيناك، يا مدينة البتول
يا واحةً ظليلةً مر بها الرسول
حزينةٌ حجارة الشوارع
حزينةٌ مآذن الجوامع
يا قدس، يا جميلةً تلتف بالسواد
نزار الشاعر القدير  بكاها وصوب قلبه اتجاهها
وها هو البرغوثي الشاب  يناجيها ويخبرها اخبارها الحزينة وقصة حكايتها الطويلة

مرَرْنا عَلى دارِ الحبيب فرَدَّنا    عَنِ الدارِ قانونُ الأعادي وسورُها
فَقُلْتُ لنفسي رُبما هِيَ نِعْمَةٌ    فماذا تَرَى في القدسِ حينَ تَزُورُها
تَرَى كُلَّ ما لا تستطيعُ احتِمالَهُ    إذا ما بَدَتْ من جَانِبِ الدَّرْبِ دورُها
وما كلُّ نفسٍ حينَ تَلْقَى حَبِيبَها    تُسَرُّ ولا كُلُّ الغِيابِ يُضِيرُها
فإن سرَّها قبلَ الفِراقِ لِقاؤُه    فليسَ بمأمونٍ عليها سرُورُها
متى تُبْصِرِ القدسَ العتيقةَ مَرَّةً    فسوفَ تراها العَيْنُ حَيْثُ تُدِيرُها

في القدسِ، بائعُ خضرةٍ من جورجيا برمٌ بزوجته
يفكرُ في قضاءِ إجازةٍ أو في طلاءِ البيتْ
في القدس، توراةٌ وكهلٌ جاءَ من مَنْهاتِنَ العُليا
يُفَقَّهُ فتيةَ البُولُونِ في أحكامها
في القدسِ شرطيٌ من الأحباشِ يُغْلِقُ شَارِعاً في السوقِ،
رشَّاشٌ على مستوطنٍ لم يبلغِ العشرينَ،

ولأنه من فلسطين   ويمسك في يده تلابيب القلب  الحزين  قال الشاعر محمد داود

عدو القــدس في الأقصى ينامُ
 وبعض الناس يلجمها السـلامُ

أيُؤمنُ طَـــرفُ من قتل البرايا
وطــولُ العمرِ مأكله الحـرامُ ؟

 بهذا السؤال والنداء والإعلان يبدأ الشاعر محمد داود   قصيدته عدو القدس  والتي يعبر فيها عن الحال الغريب  التي  ألت إليه القدس  رابطا الأمر بالبدايات لما فيه القدس أصلا من احتلال

من خلال التماس روح الحرف لدى الشاعر داود  نجد البساطة والعمق دائرتان تتشابكان  ويزينهما بالبلاغة والعمق التصويري للمعنى الشعري

بلاد العُـــــربِ والإسلامِ تلهو
وإلا كيف يا أقصـــى تضــــامُ

عيون الناس تغفو في سـباتٍ
وأقصــى الله يحرسـه الحمامُ

في المقطوعة الثانية من النص   يحاول الشاعر إيضاح الأمر مع الاستفزاز للهمة والقدرة  على فك هذا الحصار والنار عن الأقصى /  فانساب بسلاسة وصرخة ليدخل لداخل النفس الم الحال في المكان والزمان

وكيف لصــادقٍ في الليل يغفو
وأرض القــدس يحكمها اللئامُ

هنا يمكننا القول والاستشهاد  بان الدم والاحتلال لا يفكه تصالح ولا فدية بل استحضار الروح  الحقيقة التي تفك القيد / ويريق الشاعر بحرفه موروث  ديني عن لؤم وبشاعة اليهود  مستنبطا الأمر  من نصوص قرآنية توضح صفاتهم وأفعالهم
وفي واقعة أخرى  بعنوان درة الحرف   يكون الشاعر شفيفا حد الدهشة فيميل لاستخدام المفردة المرتوية من ماء الروح ويخرج عن التقليد  ويميل إلى استعمال مفردات  الخصب والنماء والحياة

يا دُرَّة الحــــرف الجميل تكلمـي
إن الحـــروف توهَّجت لا تندمي

كلمـــاتك الحـــمراء يزهو لونها
ورأيتها صبغت حروفك من دمـي

ولكن لا اعلم  بقوله (كلماتنا الحمراء )هل أراد الدخول للدلالات التي يحيا   فيها بوطنه الذي يرى فيه كل شيء احمر  أم أراد ابعد من هذا الحدث المكاني والواقعي فهو يستخدم دلالات  وتكوينات خارجة بصدق من ذاته ليعمل فيها إسقاط نفسي  بشعوره المتوهج  بالحب والحياة  ويتجول بذائقة  في ذاكرة القارئ للحرف ويضئ بنية أدبية شفيفة  في استدلالات الكلمات

ونظمـتِ من درِّ الكلام قصـيدة
شـعراً سما قد صاغه حلو الفم

مسكٌ حروفك كالعطــورِ نثرتِها
دررٌ تَلألأُ في الســماء كأنجـم

هنا في البداية يتسامى الشاعر بنفسه واناه  الشعرية وينطلق ببناء وحدة شعرية فريدة  ويدخل في أسلوب  ليس إجرائي فقط بل تقدما بالنص الشعري جاذبا القارئ ليكون نصا ناضجا إبداعيا 

وأنرتِ يا قمر الدياجي ليلتــــي
أنت الحبيبة في حياتي واعلمي

أن القلوب إذا توحـد شـــــملها
نالت مناها من لســــان الأبكـم

ألقُ القصـائد من دلالك غادتي
صقَلَ الخيـــال ببهجةٍ وترنِّـــمِ

إن تطلبي شــهد الحروف فإنه
عذب الكلام ونبعه من مبسمي

هذا أنا ها قد أتيتــك عاشــــقا
فتعطَّفــي وتكرَّمـي لن تندمي

طوفي المساجد والمعابد كلها
فبغير قلبي لن أراك تُســـلِّمي

هنا يكون الشاعر قد حقق معادلة بنيوية في النص وغرق في المعنى الضمني للصورة الشعرية حتى أوثقها  متكاملة  فكون رسالة نصية شعرية تصل القارئ / ثم في النهاية بنى  الصورة على المسترد الديني له بقوله
طوفي المساجد والمعابد كلها
فبغير قلبي لن أراك تُســـلِّمي
وهذا نجده كثيرا عند شعراء فلسطين فدوما يكون مازجا ارثه وبوحه الديني في خلايا نصه الشعري
ونجد أن الشاعر أقام قصيدة تنسب إليه وينسب إليها  وكأنه يقول كما قلت يوما في إحدى الإجابات على أسئلة تخص النص الشعري لمن اكتب للوطن أم للحبيبة
أنا والليل والوطن والحبيبة واحد فسبحان الله الواحد
فهذا الكم الهائل من التدفق الشعري لدى الشاعر داود  انبثق من رؤية للقضية الفلسطينية والتي هي محور نصوصه الأدبية ولكن لا يتجنى على قلبه المحب للحياة والجمال وان كتب بهذا يمزجه تمازجا موفقا  بديعا
ولعلنا أن أردنا الحفر  في تلك التضاريس الفلسطينية الشعرية  سنجد أن الأسماء كثير ممن يحملون وعيا إدراكيا  للنص والكلمة وتعبيرا باذخا  عن الحاجة والقضية الإنسانية التي يتعايشون فيها ويخرجون من التناقضات والصراعات الحياتية عبر الكتابة ليحلقوا عاليا في رسم أجمل صور شعرية  تتسم بالبراعة والابتكار للمعنى التصويري في دواخل النص / ولا شك أننا سنلاحظ أينما وجهنا وجهنا  أن الوطن كان المحرك الرئيسي لتلك الطاقة لإطلاق خيالهم والتعبير عن الهواجس لترسم أصابعهم وأقلامهم أجمل اللوحات   حتى يقيموا للشعر والفن بابا  خلفه الإمتاع الحقيقي ويكسروا منعطف الحياة الصعب  بكل قدرة
ونجد الشاعر داود ممن رسموا هذا  شفافية وعمق يستدير حيث الشمس تكون ونور القمر
مســاء الـورد والنعنـع
لمن تنصب ومن تَرفـع
لمن تعتزُّ بالنفــــــس
ومن بدر الدجـى أنصع
لمن سـكنت شراييني
ومنها لم أعــد أســمع
هذا الشاعر تسلح بكافة أسلحته الشعرية رغم انه لم يدخل مدارس الشعر ولكن إحساسه دليله البصير المتبصر ولكنه يستخدم اللغة استخداما خاصا وينتقي مفردات ليست عصية على الفهم ولا تحمل أي طلسم متشابك فالشاعر يكثر من الدلالات الوطنية ومكونات الأرض بأغلب نصوصه وكما أوردنا هذا من أدركه لارتباطه بالأرض والمحيط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى