قراءة في تجربتي التونسيتين مريم بودربالة وياسمينة علاوي:صورة جسد المرأة الشرقية في الفن التشكيلي
الجسرة الثقافية الالكترونية
*نجم الدين الدرعي
المصدر / القدس العربي
الجسد أداة وجودنا في العالم وهذا ما أكده مارلوبونتي، «هو ما يجعلني أتجذَر في العالم، بل هو محور العالم اّلذي أعيه بواسطته»، وأداة عمل وإنتاج.
أمَا في تاريخ الفنون فإن حضور الجسد يكاد يكون جوهريا، فهو مصدر إلهام وإغراء.
بهر العديد من الفنانين منذ الكلاسيكية، خاصة فنّاني عصر النهضة اّلذين جعلوه الأساس لإبداعاتهم والملهم الأعظم لإنجازاتهم الفنية عبر التاريخ. إن تناوله كان وفق قانون النسب الذي ما فتئ يتبدل من فنان إلى آخر كل حسب زمنه، لتظهر تقاليد إبداعية جديدة مع الفن المعاصر تتجاوز معنى المحاكاة والتقليد لتعبر عن الشحنة التعبيرية اّلتي يحتويها الجسد من انفعالات وأحاسيس.
أصبح الجسد مبحثا لعديد من التساؤلات والإشكاليات، التي نمت مع الفن المعاصر وجاءت لتؤكد على حضور جسد الفنان من خلال تحرر لمسته وحركاته في معالجته التشكيلية. أمثال كلود موناي وفان غوغ وهنري ماتيس، وهو ما نجده حاضرا في ما بعد في أعمال جاكسون بولوك وجورج ماتيو وفرانز كلاين وغيرهم من الفنانين، اّلذين تميزت أعمالهم بطابعهم العفوي والتلقائي وفعلها الاندفاعي، الذي يحيل مباشرة على حضور جسد الفنان.
وأحيانا أخرى يصبح الفنان نفسه العمل الفني، وهو ما يتضح خاصة في التوجهات الفنية المعاصرة، اّلتي سعت للتأكيد على حضور جسده كمادة أساسية في بناء العمل الفني مثل، فن الجسد أو فن البرفرمونس أو فن الفيديو. صار هذا الاهتمام بقضية الجسد يشغل فكر الكثير من الفنانين والنقاد والباحثين، باعتباره يحمل جملة من التناقضات والتساؤلات فهو «قد مثل منذ زمن بعيد الموضوع، اّلذي لا يمكننا تجنبه في التعبير الفني»، سواء كان ذلك من ناحية طرحه للبعد الإشكالي، الذي لا يخلو من طرافة المعالجة لغاية التجديد وتجاوز السائد نحو مسألة لا تقل أهمية في الفن وهي الجسد، وبالتحديد جسد الفنان. تغيرت نظرتنا اليوم للفن والفنان جذريا بفضل ما توصلت إليه بعض التوجهات الفنية خاصة منها المعاصرة من مواقف وأفكار لم نعهدها من قبل، باعتبارها انفتحت على إمكانات أخرى في الممارسات الإبداعية، فموقع الفنان كفاعل وأداة في العمل التشكيلي أصبح جليا، خاصة إذا ما تعلق الأمر بمثول جسده، وهو ما يحيلنا إلى عالم جديد من الرؤى والمفاهيم والقيم الجديدة.
لقد تعددت الطرق والأوجه التي تعكس هذا التصور الجديد لمفهوم جسد الفنان، وهو موقف لم يأت جزافا، بل كانت مرجعياته فنية وفكرية. وبالتالي تميزت أغلب الأعمال التشكيلية باتخاذها لأبعاد وأساليب متنوعة.
كان أهمها البحث في عدة نقاط تتعّلق بمسألة توظيف جسد الفنان في الممارسة التشكيلية، وكيفية حلوله محل المحامل التقليدية من خلال عدة آليات للتشكيل، فما كان إلا أن أستغل الظروف، التي سمحت بهذا التمرد أو المغامرة، عبر تتبعي لتاريخ الفن التشكيلي في البلدان العربية والغربية ونظرة كليهما لمفهوم الجسد، من خلال عدة تصورات ومدى قدرتها على التفاعل مع هذه المادة الحية، التي ستوضحها أكثر مختلف التجارب الفنية، كلا حسب أسلوبه الخاص وماهية الجسد كموضوع بالنسبة إليه.
وفي هذا المجال أخذ جسد بعض المصورين الفوتوغرافيين حيزا في أعمالهم أمثال الفنانة التونسية مريم بو دربالة والمغربية ياسمينة علاوي، اللتين تمكنتا من التعمق في الأبعاد الجمالية والتعبيرية للجسد، فتميزتا في الساحة الفنية من خلال رؤاهما وأفكارهما.
جمعت مريم بودربالة وياسمينة علاوي، عن طريق فن الفوتوغرافيا التشكيلية، بين الفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي. بدأت خطواتهما في صياغة فكرتيهما، ثم تحديد تقنية العمل واختيار جسديهما، الموديل والعمل الفني في الوقت نفسه، واتخذتا وضعية مناسبة للتعبير عن فكرتيهما، من ثم التقاط صورة لجسديهما بالطريقة اّلتي تعتقدان أنها تعبر عن رسالتيها. فأعمالهما بمثابة صور فوتوغرافية لجسديهما في وضعيات وحالات مختلفة، حيث تندرج الصورة الفوتوغرافية ضمن إطار الفن التعبيري المستقل لكونها تتناول الرؤية الواقعية من زوايا متباينة، فهي مرآة تعكس محيطها بكل أمانة، كما تستخدم الصورة كلغة صامتة للحكي والسرد والمحاكاة. لقد أصبح التصوير الفوتوغرافي سمة مستحوذة على جزء لا يستهان به في الفن المعاصر، خصوصًا عندما تكون الأعمال المطروحة قد التقطت بطابع يحمل سمة التجدد والخروج عن النمط السائد وعلى قدر كبير من الثقافة والإلمام بكل نواحي المجتمع الإنساني.
يرتكز العمل الفني لمريم بودربالة حول التصوير الفوتوغرافي الاستشراقي وعن المرأة الشرقية وحالتها في العالم العربي. من خلال توظيف جسدها كأداة تشكيلية في أعمالها. قامت بالنقد والتعليق على الصور الاستشراقية للينرت ولاندروك، وكيفية تقديم صورة المرأة العربية، من هنا حاولت بودربالة تجاوز الصورة النمطية للمرأة، وسعت لتبديل بعض التصورات المسبقة في العالم العربي، حيث قامت بالرد على هذه المسألة تشكيليا من خلال دمج أصلها وثقافتها المزدوجة في عملها، فأصبح جسدها أداة ومساحة للتحرير وللخلق وتأكيد شخصيتها. كما نلاحظ مدى تأثرها بعمل مان راي، فسلسلة البدويات مستوحاة من عمل «الأمس، اليوم وغدا» حيث نسبته لمخيلتها وأنجزت منه سلسلة من الأعمال المتشابهة، من خلال اعتمادها على التقنيات الرقمية.
كما وظفت الأزياء والحلي لأغراض إنمائية، عرقية، اجتماعية، ثقافية، لإبراز هويتها من خلال ممارستها الفنية. تعتبر تجربتها متنوعة ذات خصوصية، هذا علاوًة على كونها قامت على إنتاج رسالة بصرية مؤسسة على المفاهيم وإشكاليات الفن المعاصر. وراوحت أيضا بين جل مجالات التعبير التشكيلي (فوتوغرافيا، أداء كوريغرافي).
تستمد أفكارها من الواقع المعاش للمرأة العربية، لتقدم رؤية إبداعية تحمل في طياتها قراءة نقدية ذات أسلوب متفرد. وظفت الفنانة مريم بودربالة جسدها بطريقة موازية تحمل الفكرة ونقيضها بين نزعة تؤكد على هوية تراثية متجذرة، وأخرى تبشر بهوية مستقلة، مستلهمة أعمالها الفنية من الحياة اليومية الاجتماعية ومن بعض التيارات الفنية ومن بعض الفنانين مثل مان راي ولينرت ولاندروك، حيث أن هذه المرجعية كان لها تأثير مباشر على أعمالها التشكيلية، بالإضافة كذلك إلى ازدواجية أصلها. فتجمع الفنانة تجربتها الشخصية والإبداعية بين الواقع والموروث الثقافي، وكان جسدها الموضوع الرئيسي والأداة المادية، التي بلغتها بعضا من أفكارها.
اتخذت «ياسمينة علاوي» جسدها موضوعًا أساسيًا في أعمالها، منه تبني عليه مسارها التشكيلي. التقط ماركو صورا فوتوغرافية لجسدها عاريًا غارقًا في العتمة. رسمت عليه مواضيع استلهمتها من الموروث العربي الإسلامي المتمثلة في عناصر زخرفية وأشكال هندسية، أصبح جسدها مسرحا لها.
عمل من «سلسلة من الصور الفوتوغرافية: 1001 أحلام»، 2003 40 سم x 25،Green
ركزت على الجانب الجمالي والاستتيقي، اّلذي يتلخص في الزخرفة بهدف إضفاء بعد جمالي على الجسد، فهو رمز يحمل العديد من الدلالات الاجتماعية والدنيوية. قامت بتوزيع عناصرها التشكيلية والزخارف على كامل جسدها العاري، لتبعث فيه الحياة ولتعبير عن جسد المرأة العربية المغيب وراء الثوب الأسود. توجهت ياسمينة بتجربتها الفنية إلى مسار فني جديد على الساحة المغربية، بحيث تعمق بالفن الجسدي وتعمق في خصوصية الزخرفة الفنية الحاملة لأبعاد نقدية، ثقافية وخصوصية وفردية تسعى من خلالها إلى التجاوز المستمر لتبوح لنا بهويتها الفنية المزدوجة والمتجذرة فيها. كما نجحت ياسمينة وماركو في إيهام المشاهد بأن الزخارف مرسومة مباشرة على الجلد. اتخذت التقنية الرقمية مساندة لها في إنشاء تراكيب ووضعيات مختلفة لأعمالها الفنية. ووظفت كل من مريم بودربالة وياسمينة علاوي جسديهما في أعمالهما الفنية عاريتين، ففي تعرية الجسد بحث عن المسكوت عنه. سعت كل منهما إلى تطوير الفن وتحويل العقليات من خلال التفاعلات المتشابكة المكانية والزمانية والثقافة لديهما. اختلفتا في الأسلوب والتقنية واشتركتا في توظيف جسد الفنان أداة تشكيلية. تأثرت كل منهما بتجارب الغرب، رغم ذلك رسمتا لنفسيهما مسارا إبداعيا خاصا، يستقي جذوره من التراث الأصيل، عبر صياغة فكرية وأسلوبية محكمة. تتمثل أعمالهما في أسلوب واحد يجمع بين الأصالة والمعاصرة وهو ما يرتكزعلى الطابع الخصوصي، الذي انتهجته كل واحدة منهما في تطوير إبداعها عبر توجهات معاصرة تتماشى مع القيم الفنية والجمالية، لصياغة جسدها أداًة ووسيطًا تشكيليًا.
تتمثل أعمالهما استشراقا مضادا، أبرزتا من خلاله الجسد موضوعا مادويا، والهوية رمزا وبعدا ثقافيا، وصورة المرأة العربية نقدا للنظرة الاستشراقية الأوروبية للمرأة العربية. أضفت تجربتهما بين الأصالة والمعاصرة لمسات إبداعية جديدة على المحلي والمألوف، حيث تركتا أثرا واضحا في الفن العربي المعاصر. من خلال التقنيات والعمليات المستخدمة من قبل هاتين الفنانتين لم تعد الفوتوغرافيا مجرد عمل استنساخ ونقل يعتمد الضوء والشمس بتوظيف آلة تصوير يحكمها الزمان والمكان، قدر ما أصبحت فنًا قائمًا بذاته تتعدد فيه التقنيات والصيغ والأساليب التصويرية.
إن على مستوى إنتاج الصورة وفق شروط ومعايير جمالية غاية في الدقة، خصوصًا بعد اختراع برامج وأنظمة الصورة الرقمية والفوتوشوب، اّلتي يمكنها أن تخدم فكرة العمل وتتيح للفنان القيام بتعديلات أو تداخلات، يريدها على الصورة الفوتوغرافية.