قراءة في شعر الهادي العبدلي بقلم الأستاذ البشير الشّيحي
الجسرة الثقافية الالكترونية
المقدّمة
اخترت بعض القصائد لتحليل خصائص التّجربة الشّعرية عند الهادي العبدليّ وأعلم أن هذا لا يفي بالحاجة وقد يكون وقوفا على عتبات ذائقة شعريّة دون أن أتمكّن من تبيّن كلّ معالمها كمن يسعى في البرّ يودّ أن يقبض على نور آت من فيض إحساس وتناغم حواس لأنّ الشّعر هو هذا المزيج المركّب الطّافح في ذات الشّاعر.
وانّ دراستي هذه هي محاولة قراءة, تحليل وبحث في عالم الأدب دون أن أدّعي أنني أمتلك قوانين نقد الشّعر ذلك أنّها وسائط نعتمدها لتبيّن مظاهر الجماليّة . كما أنّ هذه النّصوص لا تعدّ شعرا تام الشروط فالكتابة سعي والرّسم بالكلمات محاولة لإدراك المعنى والدلالة. وانّ النصّ الواحد فيه ماهو شعر وفيه ما ليس بشعر.
المدّ والجزر في الشّكل الشعري : ثنائيّة الثّابت والمتحوّل
نجد أنّ الهادي العبدليّ وزّع قصائده توزيعا عروضيّا وبصريّا فهو متأثّر بحداثة الثّقافة الشّائعة باعتبارها فتحت مسارا جديدا في كتابة القصيدة أي قصيدة الشّعر الحر وقصيدة النّثر إضافة إلى افتتان بسلطة الموروث الحاضر في هيكل الشّعر العمودي لأنّه ينهل كيفيّة صياغة الشّعر من زمن البدايات . كأنّه يقول للّغة حرّريني أو داعبي الذّاكرة في ظليّ لذلك نجده يحافظ على وحدة الرّوي وأحيانا أخرى يقوم بمزج لذيذ بين الحروف: القاف, النّون والرّاء لإنشاء تنويع يخلّص الوزن من رتابة الدّوريّ المكرّر. وقد ورد ذلك في نصّ ( حديث الرّوح) الذّي نجده يفتح للإيقاع مسارب أخرى من صلب هذا البوح. ونجده أيضا يطوّر حسّه الذّوقيّ المهاريّ فينتهج منهجا حداثيّا نصّ( صلاة الغائب)
أساليب التّعبير وكيفيّات التّصوير:
*ثنائيّة الإنشاء والخبر:
ينطلق الشّاعر في قوله الشّعري راصفا اللّغة الأدبيّة ناسجا كونه الموسوم بالتّجريب والتّجريد في لحظة انفعاليّة تماثل فوضى الحواس أو إخباريّة تنقل لنا الوقع المعيش وهو واقع ذاتيّ وآخر موضوعيّ لذلك تراوحت الكتابة عنده بين جمل خبريّة تقريريّة ( بنات الحيّ أوقدن الشّموع * نصّ صلاة الغائب*, كنت طفلا نائما لا يستفيق نصّ * حديث النّفس*ممّا يجعل الكلام الشّعريّ تتحكّم فيه الوظيفة الإخبارية في تحديد العلاقة بين الباث والمتقبّل أو تحديد السّياق الوصفي المنقول بواسطة اللّغة. إنّ الإخبار يتأسس من خلال رغبة الشّاعر في جعل الكلام أوّل أداة للتّعبير عن الحالات والموجودات والعلاقات . وهنا نجد الشّاعر يعبّر عن هدوء آو انبهار وهو في حضرة الشّعر يولّد المعاني التّي تكون في علاقة جوار حميميّة مع المرئيّ , المسموع والمحسوس أي أنّه يضطلع بدور السّارد ينقل المعنى دون تصريف أو أنشاء وهذا ما يجعل الخبر علامة إعلام تمكّن الشّاعر من التّصريح بماخفي في ذاته من شجن.
كما نجد في قصائده حضور الأسلوب الإنشائيّ متمثّلا في الأمر بمختلف دلالاته والاستفهام بمختلف وظائفه. فالاستفهام يعبّر عن حيرة الشّاعر في رحلة بحثه عن ملاذ, عن كائن غيبيّ سماويّ يعيده إلى الفطرة, ويلهمه القدرة الخارقة , يحاوره يصطفيه كائنا قدّ من نور كما الأنبياء يمتلك الوحي والإعجاز ( أما من نذير على هيئة الطّير يأتي
ويوحى اليك كما الأنبياء؟)
فهو يروم التوحّد مع هذا الصّوت , هذا النّذير الذّي يتردّد صدى صوته في وجدان الشّاعر وذاكرته لذلك يستند إلى الأسلوب الإنشائي الذّي يدلّ على عجز الشّاعر ووجعه المأساويّ في زمن ضنّ بالعظماء وفي واقع لا خوارق فيه تبهر وتعجز. ونجده في قصيدة * صلاة الغائب* يتساءل : ما الرّفاق… ما المكان… ما الزّمان؟ للإفصاح عن قلقه المعرفيّ وحيرته الوجوديّة معلنا عن اغتراب تراجيديّ لأنّه لم يجد صلة وثيقة كالعروة الوثقى تجعله كائنا بشريّا منتميا , منتسبا . انّه هنا في لحظة تيه صاغها وجع فكريّ لأنّه لم يجد من يماثله انتماء ومن يماثله فلسفة , كأنه في مشهد عري تام وحيدا يضرب في الأرض كالصّعاليك .
أمّا الأسلوب الإنشائيّ الآخر الذّي تواتر في نصوصه فهو الأمر , فنسمعه ناصحا موجّها مرشدا يضطلع بمهمّة الحكيم لمتقبّل يبدو فردا في ظاهر الكلام : نصّ * وشاية* ( فصلّ وتب ) وقد تردّد هذا الأمر في النصّ ذلك أنّه يدعو إلى صلاة لها طقوسها , وينصحه هذا المتقبّل بتوبة نصوح تعجّل بالحصول على صكّ الغفران أو مكاشفة ماخفي في عالمه من بهاء شعريّ أو من توق إلى التحرّر من قيم تعفّنت فأصبح الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان في واقع دنّسته أنانيّة هذا الكائن وجهله مات فيه الضّمير وجاعت البطون.بدا لي الشّاعر خطيبا ارتدى جبّة الأنبياء يمارس طقوس صلاته في تعبّد وتأله. وانّ خطابه قد يخاله البعض خطابا دينيّا موروثا فيفهم أن صلاة الشّاعر هي فريضة من فرائض الشّريعة , لكنّ السياق الأدبي الشعريّ يجعل هذه الصّلاة صلاة بعث, صلاة تطهّر الذّات ممّا تراكم فيها من دنس, لؤم, جشع, أي البعد البراغماتيّ في علاقته بالآخر والكون.
*الإيقاع بين سلطة الثّابت وتأثير المتحوّل
إن الإيقاع مكوّن أساسيّ من مكوّنات شعريّة النصّ وجماليّة الخطاب لوظيفته التعبيرية التأثيريّة , وقد ذهب القدامى إلى أنّ الشّعر صور وأنغام وذهب ّ قدامة بن جعفر إلى أن الشّعر كلام موزن مقفّى يدلّ على معنى.وأنا أجد أنّ للإيقاع عدّة أشكال في نصوص الهادي العبدلي :
*طريقة توزيع الأسطر وإتقان التصرّف في الكمّ اللّغوي المتناسل من مكتسبات ورصيد معرفيّ واعتماد التّنقيط لسدّ الفراغات التّي لا ىتمثّل لحظة صمت وعجز بقدر ما تدلّ على رغبة الشّاعر في تشريك القارئ مهمّة صياغة النصّ
…. فكم من محبّ…. وكم من عشيق
يسبّح باسم الوطن : نصّ( إشاعة)
وأجده يوزّع الجمل و المرّكبات توزيعا منظّما موقّعا .
واقف
والجسم يهوي تحت أعطاف السّنين
يتجلّى من شحوب
يقرع الصّمت بصمت.: نصً (صلاة الغائب)
فهو يجعل من السّطر الشّعري نافذة ينفتح من خلالها عن أناه التّي تتشظّى يطحنها الجوع الرّابض في البطون والخواء المحيط بالبيوت فهو لا يبقى سجين المكلوم من المكتوم لذلك أجده يوزّع الأسطر ترميزا واشجاء وكان الرويّ ترجيعا لرحى الوجع ممّا جعل الحروف الشفويّة والمكرّرة والشّديدة باعتبارها تمثّل عناصر التّصويت تثري نغم القصائد.
*تواتر الثّنائيات:
الأنا/ الآخر
الخبر/الإنشاء
الهمس/الجهر
الضّيق/الانفتاح
يبدو الإيقاع هنا إيقاعا رتيبا من جهة هذا ا لتّواتر لكنّه يتخلّص تدريجيّا من هذه النمطيّة فيفتح له مخارج تصويت أخرى بواسطة الأصوات وسرد الأفعال الذّي يتّخذ نسقا ملحميّا
يسبّح باسم الوطن
ويمشي على كلّ أرض عليها يرانا
..يبارك هذا الزّمن
*إيقاع التّرديد اللّفظيّ , التركيبيّ
يختار الشّاعر الهادي العبدليّ ترديد بعض المركّبات والجمل الفعليّة أو الاسميّة همّه أن يردّد بعض الأشكال اللغويّة النحويّة.
فتلك الفريضة اسمي
وهذي القصيدة جسمي. نصّ( إشاعة)
أو في نصّ صلاة الغائب عندما يردّد:
لهذا الزّمان الخنوع
…. لهذا المكان
….. لتلك الوجوه.
*الإيقاع البصريّ:
يظهر جليّا في كيفيّة توزيع الأسطر التّي تراوحت بين القصر والطّول إضافة إلى علامات التعجبّ وتوزيع المقاطع في نصّ صلاة الغائب إلى ستّة مقاطع تحكمها لازمة إيقاعية( واقف). هذه سمة من سمات رغبة الشّاعر في ارتياد حداثة الإيقاع وهو يصف هذه الصّلاة وصفا ضارع الترّتيل . ممّا جعل اللازمة الإيقاعية ( واقف) تحكم نسيج النصّ ومختلف العلاقات التركيبيّة فيه.
واقف
ينزف العمر وحيدا
حدّق التّاريخ فيه
ظلّ يروي
قصّة البعث ويمضي
فرط أحلام شريدة.
ومثّلت تقنية التّنقيط سمة للإيقاع البصريّ
….. يموت الضّمير
…… تكلّ المتون…. تجوع البطون….. تدور
طواحين حرب الغضب,
صباحا مساء…. لقتل الأماني
فصلّ وتب.
إن هذا التنّقيط ينقل لنا النّفس الشّعري وهو يضيق باحثا عن مخرج , يحمل معاناة الذّات الشّاعرة.
الصّور الشعريّة بين التّصريح والتّلميح, بين الحسّي والمجرّد
في تتبّعي لقصائد الهادي العبدليّ وجدته ينسج صوره محاولا الجمع بين ماهو قريب مألوف من ذهنّ المتقبّل وما هو سليل ذائقة شعريّة ذاتيّة ونحن نعلم أنّ الصّور تعدّ مكوّنا جماليّا هاما في تشكيل المشاهد و رسم الموصوفات من أشياء وذوات وعناصر كما ترد الصّور مغلقة أو انتشاريّة, حسيّة أو تجريديّة, تقريريّة أو إيحائيّة حسب سياق القول وقدرة الشّاعر على نحت هذا الكيان الشّعريّ بتقنية الكتابة وإعادة صياغة الكون على نحو مخصوص.
إنّ الصّور الشّعريّة في قصائد الشّاعر تبدو متوالدة يستدعي بعضها بعضا يجمع فيها بين المعنويّ والحسيّ وقد ينهل أحيانا من الذّاكرة التّي تحضر بزخمها , ونجد هذه الصّور تطلق صيحة فزع وتنبش صرخة حزن طويلة.
يذهب الهادي العبدليّ إلى الإخبار والإعلام والبوح فتكون الصّور عاديّة متراكمة :
ذات أمس في متاهات الطّريق
كنت طفلا نائما لا يستفيق
قد مضي عمري سنينا في ثوان
ساعة كانت بحلمي لا تضيق. نصّ (حديث الرّوح)
فتبدو الصّور مألوفة لا يجد القارئ السّامع صعوبة في إدراك المعنى لأنّها قريبه من الإفهام والإدراك.
ونجده يعتمد التّرميز أحيانا في تشكيل المشهد فهو يتخفّى لا لإضمار الحقيقة المحجّبة بل ليرصد لنا بعض الصّور . ففي نصّ ( صلاة الغائب) اعتمد التّقدير ( المبتدأ) لأنّ ما سيرد ما في النّصّ يمثّل مكوّنات الهويّة الموصوفة ودليل الانتساب إلى كونه الذّاتي في علاقته بالجماعيّ فتتوالد الصّور وتتشابك ليشدّها هذا الواقف حتى لا تفقد بناءها المحكم في نسيج القول.
تبدو الصّور مألوفة تختصّ بالإخبار كما ذكرت ذلك سابقا. ونجدها تلتبس بالخيال في بعض المواطن مخلّصا ايّاها من الخطاب المباشر ناسجا تجاورا بين المحسوس والمجرّد معتمدا التّشخيص ميسما بلاغيّا للتّعبير عن وجع إنساني كونيّ فقد الدّليل وهاهو العمر ينزف وحيدا.
ينزف العمر وحيدا
حدّق التّاريخ فيه
ظلّ يروي
قصّة البعث ويمضي
فرط أحلام شريدة.
هنا نجد الشّاعر في لحظة تيه وضياع وتشرّد يأكله القلق و هي صورة مأساويّة فيتّخذ من الحرف سيفا مسلولا يقارع به العبث وعدم.
كما يعتمد التّشابيه في تعدّد واضح مطاردا ماهيته محاولا تفسيرها ليعلمنا انّه متعدّدة.
كنت طيرا شاديا بين الغصون
كنت فجرا في دجى الدّهر السّحيق
كنت أرضا كم سقى الطلّ ثراها.
فهو في حيرة من أمره, بل هو يركّب مكوّنات الصّورة كي تكون مثاليّة مستمدّة من الطّبيعة التّي تمثّل ملاذا آمنا بالنّسبة إليه.
المضمون الشّعريّ والدّلالة
إنّ المعنى الشّعري هو إنتاج للمضمون والفكرة والمغزى أو الدّلالة . والهادي العبدليّ كان في نصوصه ذلك الشّاعر الذّي يودّ أن يكتب المعنى ويعيد صياغة الواقع بكلّ تناقضاته
*المضمون النفسيّ الوجدانيّ:
تختفي صورة الشّاعر العاشق ليكتم بعض بوح قد يكون مسرب أوجاع وعذابات , بيد أنّه يوفّر للذّات فضاء للتّعبير عن همومها ومشاغلها , ورصد تفاعلاتها مع الواقع المعيش .انّه هنا يبدو دون هويّة في ظاهر الكلام أو هو ذاك الإنسان الذّي لا يمكن أن يعرّف لأنّه لم يكن سجين العادة والمألوف والعادات والتّقاليد. بل كان يسعى إلى نحت كيان متعدّد خصب مركّب تتجادل داخله الأفكار والمفاهيم
كمفهوم الغربة:
واقف
ينزف العمر وحيدا
حدّق التّاريخ فيه
ظلّ يروي
قصّة البعث ويمضي
والعيون
فرط أحلام شريدة. : نصّ (صلاة الغائب)
ونجده يئنّ تحت سلطة الوجع , يروم أن يكون جبلا و الطّريق يطرحه أرضا لكنّه لن يذبل .
لي بساط من شذى الزّهر أنيق
لي ربيع دائم الزّهر نضير
يا بقايا العمر أضناني الطّريق.
انّه يرمّم ما تداعى في وجوده بذاكرة خصبة , بعالم طبيعيّ نورانيّ, بحقل معجميّ مستمدّ من بيئة بدويّة ريفيّة قدّت من زهر ولوز وثرى.
ونجده يتألم أحيانا تألم الغريب الذّي هو في غربته غريب.
*مفهوم العجز/ السّعي
انّه يعبّر عن حدود القدرة الإنسانية , عن واقع الذّات أو واقع الآخر فجدليّة الحياة هي مزيج بين عجز قاهر وسعي باهر:
الجسم يهوي تحت أعطاف السّنين
يتجلّى من شحوب
يقرع الصّمت بصمت
لكنّه سرعان ما ينهض عتيّ الصّهيل يحاور النّفس حوارا باطنيّا مجازيّا يتمنّى أن تطمئنّ الروّح وينهض العزم فيقف ناهضا من رماد الاحتراق معلنا بيانه في خطابة شعريّة , ويصير إمام هدي يقدّم للآخرين كيفيات الإقامة في الكون على نحو مخصوص وصوت حكمته يرتدي جبّة القصيدة
*مفهوم الالتزام:
وجدت الهادي العبدليّ في النّصوص التّي درستها مفردا وجمعا: مفردا لأنّه ينطلق دائما من ذاته وتفاعلاتها وانفعالاتها, يبوح بوحدته ومعاناته, ويتلمّس أحيانا بوادر نور يأتي بها الشّعر ليقرع الصّمت باللّغة. كما نجده في أشكال تعبيريّة أخرى وسياقات شعريّة مرتبطة بالواقع وقضاياه عددا فينصهر الذّاتيّ في الموضوعيّ للكشف عن مجموعة من الأزمات والانهيارات. فالأنا يطحنها الجوع تراقب صرخة طفل رضيع لتعلن عن انتمائها إلى ذلك الواقع
…. وصرخة طفل رضيع
وفرحة أمّ تداعب شعره إذ ينام
فتقبض بسمة قد تلهّت بكلّ العيون
شعورا فضيعا … وبعض الرّغيف.نصّ ( إشاعة)
ثمّ نجده يرصد ما تعفّن في واقعه من معاملات وسلوك وقد صار
أفقه النّاس يجوع
من أجل أن يبقى السّلام
وشيوخ في المدينة
ابتاعوا بالأصل الفروع .
فالشّاعر ينخرط بوعي أو دون وعي في تفاصيل الواقع ليلتقط الصّور المتناثرة فيه ويقوم بصياغتها متفاعلا مع وجع الجماعة.لأنّه يؤمن بأنّ الشّعر إعادة صياغة للحقائق والأحداث والأحوال.
*مفهوم الجمال الطبيعيّ
لئن اعتمد الشّاعر طريقة الإيحاء في أغلب نصوصه وذهب إلى التّعبير عن المعنوّي والتجريديّ فانّه لم يكن منفصلا عن صور الطّبيعة الغنّاء وهي تنهض من ذاكرته شامخة متحرّكة متناغمة فكان معجم نصّ ( حديث النّفس) مستمدّا من عناصر الطّبيعة أرضا , زهرا طيرا, غصنا لأن خيال الشّاعر خيال يستدعي الطّفولة والأرض والمزرعة والحقل فينسج منهم مشهدا خصبا مخضرّا .
*التّناص
تأثّر الشّاعر بعديد النّصوص الوافدة من ذاكرة غزيرة وتراث ثريّ أثّرا في ذائقته الشعريّة وكتابته. فهو يستدعي النصّ الدّيني ( صلّ وتب) في ترديد وتنغيم يقف هنا مستحضرا قداسة الصّلاة ومتأثرّا بخطبة الخطيب , بيد أنّه هنا يقدّم للقارئ والسّامع مضمونا آخر جديدا شعريّا مخصوصا بالحكم والعبر.
فصلّ وتب
فتلك الفريضة اسمي
وتلك القصيدة اسمي
وحتما أنا من كذب
وحتما أنا من كذب.
ربمّا يسعى هنا إلى التطهرّ من الوهن, والعجز وكلّ مظاهر الاقتتال والتّطاحن لأنّ الكذب هنا يبدو مستطرفا لأنّ أعذب الشّعر أكذبه.
كما نجد حضور نصوص الخمريات والأحاديث
حدّث النّاس فطافوا بالسّكينة
قال يروي عن هريرة
وصحيح عن يسوع
أعذب الماء مدام
أفقه النّاس يجوع.
فالهادي العبدليّ واقع تحت سلطة القديم, يودّ أن يتحرّر لكنّ صوت القبيلة يدعوه إلى مجلس شعريّ وآخر أدبيّ , فيلبّي النّداء ممّا يجعل النّص أحيانا لا يستقرّ عند سياق واحد فيبدو فوضويّا دون أن يفتح مسارب الذّاكرة فتحا يغني النصّ , ويثري الدّلالة ذلك أنّه يقتصر على الاستدعاء الشّكليّ دون إحياء أو تصرّف ورغم ذلك نجد في هذا التّوظيف طرافة. ونجد أيضا تأثّره بنصوص الشّابي ذات المنحى الرّومنسيّ الوجدانيّ الكونيّ. نصّ ( حديث النّفس)
وانتشت روحي زمانا بالأماني
كم سقاها الحلم أكواب الرّحيق.
الخاتمة
هذه قراءتي لنصوص الهادي العبدليّ , وهذه بعض سمات شعره وكونه. حاورت الكلام وحاولت رصد معالم الكتابة عنده فوجدت أنّه يكتب بتوهّج وجدانيّ في لحظة صدق , تعبير وتوق فهو لا يشبه الآخرين أي أنّ نصّ العبدليّ لا يمكن أن يكون صوت شخص آخر, وانّ ما كتبه هو محاولة روحيّة فكريّة حسيّة لتصوير مشاغله شاعرا وإنسانا, وقد وجدت في قصائده حضورا لشعريّة الخطاب وأحيانا يرد القول عنده عاديّا . وهو يعلم أنّ الكتابة الشعريّة هي عمليّة سعي باللّغة لتأسيس شعريّة القول وجماليّة الخطاب. وبالنّسبة إلى قسم التّقويم فقد أعددت بعض الملاحظات سأوجّهها للشّاعر ونتحاور حوار الشّعر والنّقد في مجلس يتكّون من غناء, وحروف في رحلة البحث عن الشّعر.