يشار كمال: شذرات من اجتراح الوعي وتدوين الملحمة
الجسرة الثقافية الالكترونية
*صبحي حديدي
المصدر / القدس العربي
في توصيفه لمعنى الالتزام الأدبي، قال يشار كمال (1923 ـ 2015): «ما أعنيه هنا هو أنني كاتب ملتزم يمارس التزاماً راسخاً بشمولية الكلمة. فمنذ يفاعتي أكدت على أن العالم حديقة ملأى بزهور الثقافات الوافرة. ونحن جميعاً نعرف أنها حديقة ثقافة عامرة بآلاف الزهور. وعلى امتداد التاريخ كانت الثقافات تغذّي، وتؤثّر، وتلقّح بعضها البعض. وإنّ اقتلاع أية ثقافة من عالمنا سوف يقتل لوناً ما، أو رائحة، أو ثراءً. خذوا الأناضول، منطقتي الأصلية، وتوسعوا بعدها في حوض المتوسط بأسره: لأن هذه المناطق كانت أرض إخصاب آلاف الثقافات التي حفظتها، فإنها اليوم منبع للحضارة العالمية وللثقافة الكونية. خذوا بلادي مثالاً. كانت الدولة العثمانية إمبراطورية متعددة اللغات، متعددة الثقافات، متعددة المذاهب. هكذا كانت الأناضول، قلب الإمبراطورية. والأناضول أيضاً كانت البحر المتوسط وبلاد الرافدين والقوقاز والبحر الأسود. وعلى امتداد التاريخ حافظت الثقافات الأناضولية على سيرورة إخصاب متبادل. وإلقاء نظرة خاطفة على الساحل الإيجي من الأناضول قبل الحقبة المسيحية سوف يكشف تنوّعاً واسعاً في اللغات والثقافات التي أنتجت الفلاسفة مثلما أنتجت هوميروس. هؤلاء خلقوا مئات الأعمال الخالدة، وهكذا أسّسوا المنبع الثرّ للثقافة الكونية».
والحال أنّ مسقط رأس كمال كان قرية تقع في قلب منطقة كيليكيا التاريخية العريقة والخصبة، بين جبال طوروس وساحل المتوسط، وبين نهرَي جيحان وسيحان، والتي سيتبدّل اسمها بعدئذ إلى شوكروفا. هنا، في طرس، ولد القديس بولس الذي سينقل الديانة المسيحية إلى أربع رياح الأرض، وهنا كان الخطيب شيشرون محافظاً ذات يوم. وفي كتاب حواري بين كمال والشاعر الفرنسي آلان بوسكيه، يقول كمال عن المنطقة: «في وسعك أن تنبش التراب أينما شئت، وعلى عمق لا يتجاوز المتر الواحد سوف تعثر على قطعة موزاييك بيزنطية.
وحين ولد كمال لم يكن عدد سكان القرية يتجاوز 60 عائلة، جميعهم من أحفاد البداة التركمان الذين هاجروا إليها من آسيا الوسطى أو بلاد الرافدين. وهكذا فإنه لم يولد في بلاد كردية كما يشيع الظنّ، لأنّ أباه وأمّه فرّا من الأناضول الشرقية بعد احتلال الجيش الروسي لبحيرة وان، واستغرقا سنة ونصف السنة قبل أن يصلا إلى شوكروفا. كذلك لم يكن أحد في القرية ينطق بالكردية، باستثناء أسرة كمال. وعن اللغة الكردية يقول: «نحن الأطفال لم نكن نتكلم الكردية عملياً، ولهذا حين كان الكبار يخاطبوننا بها كنّا نردّ بالتركية. واليوم أفهم كلّ ما يُقال لي باللغة الكردية، وأتحدّث بها على نحو مقبول، إلا إذا تعلّق الأمر بحوارات معقدة. وأمّا إذا سألني أحدهم أن أروي له حكاية بالكردية، فإنني عندها سأكون عاجزاً عن ذلك تماماً. وفي القرية التركمانية التي نشأت فيها لم يكن أحد يميّزنا كأكراد، ولم نكن نحن نشعر بأيّ اختلاف عن أهل القرية. كنّا أشبه بجماعة واحدة ذات صلة قربى».
وُلد كمال لأب في الخمسين من عمره، ولأمّ في السابعة عشرة، وحين كان في الرابعة من عمره قُتل أبوه مطعوناً بخنجر فتى يدعى يوسف، كان والد كمال قد أنقذه عند الفرار من بحيرة وان، وتبنّاه كإبن له (الموضوع الذي سيستخدمه في روايتيه «سلمان الأعزل» و»الكهف»). وكان كمال قرب أبيه في المسجد حين قُتل وهو يصلّي، فأدّت الصدمة إلى إصابة كمال بمرض التأتأة الذي سيلازمه حتى سنّ الحادية عشرة. والمدهش أنه لم يكن يتأتيء أثناء الغناء أو أثناء القراءة الجهرية، وأنّه شُفي من هذا المرض فجأة، لأسباب لا يستطيع تحديدها.
وقبل سنة من اغتيال والده، كان الصبي يراقب زوجة عمّته وهو يسلخ ذبيحة عيد الأضحى، حين طار السكّين من يد الرجل وانغرز في عين كمال اليمنى، فأصيب بالعَوَر. ورغم ثقل هذه الأحداث، ورغم حزنه الشديد على والده ورفضه تصديق موته (أصرّ على عدم زيارة قبره)، فقد عاش كمال طفولة حافلة صاخبة: كان يسرق البطيخ الأحمر والأصفر من القرى المجاورة، يطارد العصافير في أعشاشها، يسير حافياً، ويقود عصابة من الصبيان تسرح وتمرح وتعبث هنا وهناك (أحد أفراد عصابته كان يدعى ميميد، الشخصية التي سيصوّرها ويطوّرها في العديد من أعماله). ولأنّ أسرة كمال كانت بين الأفقر في القرية، فقد عملت في فلاحة أرض اسماعيل آغا (والد ميميد، زميل كمال في العصابة، الذي سيتحوّل إلى شخصية روائية أساسية في «سلمان الأعزل» أيضاً).
التفصيل الأخير الهامّ في علاقة كمال بالطبيعة أثناء طفولته كان حراسته لـ»مقثى» الأسرة، أيّ الحقل المخصّص لزراعة البطيخ الأصفر والأحمر والخيار والقثاء. وكان المقثى يقع في ما يشبه جزيرة وسط النهر، وقد شهد أولى لقاءات كمال الليلية مع قطّاع الطرق الذين كانوا يتوافدون طلباً للملجأ والزاد. ولكي يعبّر عن ابتهاجه بلقائهم، كان الفتى يدفن عدداً من ثمار البطيخ في حوض مائي صنعه خصيصاً، ثم يخرجها حين يصل أصدقاؤه قطّاع الطرق، وتكون مياه النهر قد تكفلت بتبريدها. وكان الحوض يقع تحت شجرة دلب، ما تزال حتى اليوم تُعرف باسم «دلبة كمال المجنون»!
ويعتبر كمال كمال أنّ العلاقة الخاصة بين الطفولة والتخييل لا تسمح، في منطقة مثل تلك التي نشأ فيها، بإقامة خطّ فاصل بين الغامض والمُتخيّل من جهة، والمنطقي والواقعي من جهة ثانية. السبب في ذلك بسيط تماماً: الطفولة لم تكن منسلخة عن حياة الكبار، وكان الأطفال جزءاً لا يتجزأ من حياة القرية النهارية (العمل والاحتكاك والأنشطة) أو الليلية (سهرات الإستماع إلى الأشعار والأغاني والملاحم).
كذلك كان الأطفال هم الذين يصنعون المحرّضات التي تطلق أخيلتهم، بعكس ما يحدث في المدن. لم يكن أحد يهديهم الألعاب، فكانوا يصنعون ألعابهم بأنفسهم؛ ولم يكن أحد يربّي فيهم أي وعي حول العلاقة مع البيئة، فكانوا يجترحون هذا الوعي عملياً. وفي غياب الفاصل بين حياة الأطفال وحياة الراشدين، كان فتى مثل كمال غير قادر على تحديد (أو حتى إطلاق) النقطة التي تنتهي عندها أخيلة الطفولة وتبدأ بعدها أخيلة الرشد. كانت الأمور محدّدة بذاتها، وكانت في الآن ذاته منفلتة بذاتها من أيّ تحديد.
وذات يوم، وكان كمال في الثامنة، وصل إلى القرية أحد الحوّاجين الذين يجوبون القرى ويبيعون مختلف أنواع البضائع بالمقايضة أو بالدَين، ولاحظ كمال أنه يفعل شيئاً بدا غريباً في ناظر الفتى. «ماذا تفعل»؟ سأل كمال. «إنني أدوّن بعض الملاحظات لكي لا أنساها. إنني أكتب»، قال الحوّاج. ولقد تنبّه كمال إلى أهمية هذا الاكتشاف الجديد، ليس استناداً إلى معرفة بضرورات القراءة أو الكتابة، بل على هذه القاعدة تحديداً: تدوين ما لا ينبغي أن يُنسى. ذلك لأنّ كمال كمال كان آنذاك يؤلّف الأغاني ويقول الشعر (وكانت الممارسة واحدة أو متلازمة عملياً)، وكان يخشى ضياع الأغاني التي يبتدعها.
وفي الواقع كان بين أبرز أمجاد أسرته على نطاق القرية، أنها استقبلت ذات يوم الشاعر الشعبي الكردي الكبير عبدلي زنكي، الذي تحوّل في وجدان كمال إلى قدّيس كبير يحرّضه على الشعر والغناء. ولقد حقق كمال نجاحات ملموسة، فبات اسمه في القرية يقترن بالشعر: «عاشق كمال» (لأنّ الشاعر كان عاشقاً بالضرورة في المخيال الجَمْعي الرعوي)، أو «كمال الشاعر» ببساطة. وذات يوم زار القرية الشاعر المعروف باسم «عاشق رحمي»، فاقترح معلّم المدرسة عبد الله زكي شوكروفا أن يدخل كمال في مبارزة شعرية معه. وبالفعل، استمرّ تبادل أبيات الشعر حتى ساعات الصباح الأولى حين انفضّت السهرة والقرية سعيدة تماماً بشاعرها. لكنّ الشاعر الزائر كان قد تنبّه إلى موهبة كمال، فانتحى به جانباً وعرض عليه الإنضمام إلى فرقته والطواف على قرى الأناضول لأداء الأشعار والأغاني الكردية.
ولم يكن الفتى في حاجة إلى إقناع، فتحمّس للفكرة على الفور وقرّر التوقف عن الدراسة اعتباراً من الصباح التالي، خصوصاً وأنه كان قد أتمّ المرحلة الإبتدائية. لكن نقاشات طويلة مع معلّمه وعمّه، ونقاشات أخرى بينه وبين نفسه، قادته إلى تفضيل المدرسة على الشعر الجوّال. وفي أضنة، حيث ذهب للدراسة، تعرّف على أسرة «دينو»: عارف الذي يقاربه في السنّ، وشقيقه الكبير عابدين الرسام المعروف. ولقد قاده عارف إلى الأدب، فأهداه رواية «دون كيخوتة» التي يعتبر كمال أنها الكتاب الذي مارس التأثير الأكبر والأبكر على جميع قراءاته اللاحقة، وعرّفه على شعر أرتور رامبو (وفيما بعد سوف يشتركان في ترجمة «المركب السكران» إلى التركية). أمّا عابدين دينو فقد عرّفه على الأفكار الإشتراكية، وقدّم له «البيان الشيوعي» في نسخة مخصصة للتداول السرّي ومطبوعة على الآلة الكاتبة. وأمّا ما تبقّى من أفكار اشتراكية تتلمذ عليها كمال، فقد وصلته بطريقة «شفاهية» حسب تعبيره، أيّ عن طريق الدروس الثقافية في اجتماعات الحلقات السرّية.
ومنذ سنّ السابعة عشرة قرأ ترجمات لأعمال بلزاك، ستاندال، زولا، موليير، هيغو، تولستوي، تشيخوف، دستويفسكي، غوركي، غوغول، شولوخوف، شكسبير، هوميروس، و»ألف ليلة وليلة». وفي عام 1946 بدأ في كتابة القصص والروايات، فواجهته مباشرة معضلة فورية كبرى: بأيّ لغة سوف يكتب؟ ذلك لأنّ أوّل كتبه، وكان مجموعة قصص بعنوان «الحمّى الصفراء»، ظهرت بلغة غلبت عليها اللهجة التركمانية، التي كانت وما تزال لهجة الأقلية. وكان كمال يبحث عن حالة وسيطة بين إدقاع اللغة التركية المكتوبة (مع استثناء أشعار ناظم حكمت وحده تقريباً)، وبين الثراء الوافر الذي تتصف به اللغة الشعبية التي عرفها في منطقة شوكروفا.
كان حكمت مثاله، ولكنه أيضاً كان يدرك مقدار الفقر اللغوي في قصائد حكمت الأولى؛ والشاعر أورهان فيلي الذي رحل شاباً، وحفظ كمال قصائده عن ظهر قلب؛ وكان أمامه لغة سعيد فائق، وأسلوبه الروائي السردي. ولكنه حين أصدر مجموعة القصص «حكاية قذرة» كان قد توصّل نهائياً إلى لغته الخاصّة التي ستتحوّل إلى علامة فارقة لا تميّزه في الأدب التركي وحده، بل على نطاق الأدب العالمي في النصف الثاني من القرن العشرين.
أنجز كمال قرابة 36 عملاً، بين مجموعات قصص وروايات ومسرحيات ومجموعات شعرية؛ وليس صعود أدبه سوى العلامة الأكثر وضوحاً على تلك الانعطافة الكبرى التي شهدها الأدب التركي في مطلع خمسينيات القرن الماضي: الانتقال من رواية المدينة وشخصية الوجيه والأرستقراطي، إلى رواية القرية وشخصية الفلاح والـ «آغا» الإقطاعي. وفي رواية القرية لا تبدو شخصية الفلاح، ومثلها شخصية الآغا في الواقع، معنيّة كثيراً بحكمة الحياة الدنيا أو وَرَع الحياة الآخرة، أو حتى بالوعي الطبقي أو حدود الموقع الإجتماعي. إنها، في المقابل، جزء صانع لأسلوب عَيْش يومي طاحن، وجزء تكويني في دائرة طبيعية بيئية قاسية وحانية في آن معاً، وجزء متحرّك أبداً في علاقات شاقّة لوجود يومي لا يقلّ شقاء ومشقّة. وثمة دائماً وفرة من البؤس والضنك، العنف والدمّ، الفرح والرضى، التعاسة والإحتجاج، الشعر والغناء والملحمة.