مظاهر الراديكالية الأدبية – د . انور موسوي
الجسرة الثقافية الالكترونية
د أنور غني الموسوي
الأدب والكتابة عموما أحد أهم مظاهر السعي نحو الكمال الإنساني ، و لن تجد كتابة حقيقية إلا وكانت الغاية منها طلب الخير وفكرة الاصلاح ، لذلك يمكن تلمّس الجمال في كل كتابة حتى لو لم تستوف شروط الفنية . ومن الجيد ان نلتفت إلى انّ الله تعالى خلق العالم من الجمال و خلق الإنسان محبّا و توّاقا للجمال ، كما أنّه من الجميل أنّ تكون عيون الإنسان قادرة على تلمّس الجمال في كل شيء ، فمن يكتب في الحكمة كتابته جميلة ومن يكتب في الحزن والألم كتابته جميلة ومن يتغنّى بالأمجاد والحبيبة هو أيضا يكتب الجمال ، وهنا نتذكر الحديث الشريف الذي مضمونه أنّ السيد المسيح عليه السلام وأصحابه مرّوا على ميتة حيوان فذمّها أصحابه لكنّ المسيح قال ألا نظرتم إلى جمال أسنانه ، وفي هذا درس لإمكانية وروعة رؤية الجمال في الأشياء مهما كان فيها من قبح ، كما أنّ كثيرا من الجوانب التي نرى أنّها ليست من الخير يبيّن حديث آخر أانّها كانت لأجل الخير ، إذ ورد ما مضمونه أنّ ادم عليه السلام يسأل الله تعالى لماذا لم يجعل الناس على شاكلة واحدة في كل شيء ؟ فيتساوون ، فأجابه الله تعالى ان التفاوت بين الناس في العقل و الفكر و المنزلة و المال و النفوذ انما لأجل ان يعرف الخير و الشر و لأجل الابتلاء ، وهذه فكرة تبيّن انّ كل شيء خلق انما كان لأجل الخير و صادر من الحكمة.
إنّ القدرة على تلمس الجمال في الاشياء مهما كان حاله من المستوى الرفيع للإنسان . و لعلنا يعلم ان الكتابة في غالبها ان لم تكن في جميع اشكال وجودها تصدر من الرغبة في تلمّس النور و الخير ، و مهما كان فيها من ابتعاد عن الحقيقة الا انّها عندما لا تكون تجارية تكون نابعة من الرغبة في تحقيق عالم اكمل و اجمل ، بل حتى الفلسفات مهما كان اتجاهها فانّها ناتجة عن الرغبة نحو الوجود الأفضل ، بمعنى اخرى ان الكتابة و الفكر الحقيقي النابع من دواخل الإنسان دوما هو صوت الخير و الحب لهذا الوجود .
من الأمور التي تؤسف ان ينطوي الوجود الأدبي مهما كان حجمه على تعميمات وأحكام مسبّقة و توصيفات قاسية لا تتناسب مع حقيقة الكتابة و وجود الكاتب السامي ، طبعا ما نريد ان نتحدثه عنه هنا ليس الوجود المصطنع و الوهمي للأدب ، و انّما ما نقصده من يشعر بمسؤولية الكلمة و الأدب ، و من تكون كلماته نابعة من داخله وليست تسويقا تجاريا لأغراض بعيدة عن جوهر الإنسان ، كما أنّ ما نريد أن نتحدثه عنه ليس الموقف الذي يتخذه الأديب تجاه الوجود الشرير و المتخلف من جهات و أشخاص ، لأنّ هذا لا يدخل في النبل و القضية فقط و إنما قد يكون واجبا أخلاقيا و شرعيا ، بل ما نريد الحديث عنه تلك الأفكار المتعلقة بالكتابة و الكتاب والأدب و الأدباء ، فانّي وجدت في بعض الاطروحات في هذا الخصوص شكلا من اشكال الراديكالية بعضها صريح و بعضها مقنّع باقنعة الحوار ، الا انها تنطوي على احكام مسبّقة و اقصاء للوجود الأدبي للغير .
من اشهر مظاهر الراديكالية الأدبية هو الذمّ العام لعملية الكتابة المعاصر و واقع الأدب المعاصر وهذا كلام يخلو من الواقعية ، لان النظرة الفاحصة يمكن ان ترى مستويات عالية من الأدب و الكتابة المعاصرة فاقت باشواط كثيرا مما سبق .
ومن مظاهر الراديكالية الأدبية هو التقليل من اهميّة مناهج مدرسية و توجهات فكرية ادبية بحجة عدم اشتمالها على جماليات حقيقةي ، وفي هذا القول ابتعاد عن الموضوعية ، فانّ اقصى ما يمكن بيانه هو بيان الفروقات و التباين من دون احكام عامة وقاسية .
ومن مظاهر الراديكالية الأدبية هو الطعن بالتذوق الجمالي و الميل الجمالي لبعض الكتاب او اختياراتهم الفنية و تبنيّاتهم الأدبية و المدرسية ، و التقليل من تلك التجارب ليس لشيء الا انّها لا تتفوق مع توجهات صاحب الطعن ، وهذا وان كان يراه البعض مبررا الا ان حقيقة ان كل كتابة حقيقية هي عمل إنساني و تجربة خاصة يكون من الذوق الأدبي احترامها ، و عند عدم الاقتناع بها يحسن السكوت بدل الطعن و تبني دور الوصي و الحاكم .
من مظاهر الراديكالية بمستوى هابط هو ارجاع الميل و التذوق إلى مصالح شخصية ، و تعميم ذلك على مؤسسات او تجمعات و انه من المؤلم فعلا ان نجد كاتبا يتهم جريدة او مجلة باللاموضوعية في نشرها ، وهذا شيء غير مبرّر ، وطبعا لا مكان يخلو من الضعف الا انه لا مبرر ابدا لان تسل سيف الطعن على من يبذل الجهد و الوقت خدمة للأدب ، و من هنا يكون من واجب كل اديب الاحتفاء و الاعتزاز و التقدير لكل مؤسّسة ادبية بل حتى الصفحات الأدبية و الثقافية التي في مواقع التواصل الاجتماعي .
من الراديكالية الأدبية المبطنة و التي تظهر كنزاع هي شخصنة القضية الأدبية بان يكون الاختلاف ادبي محض ثم يتحول في النهاية إلى جفاء و ربما تراشق و شخصنة الامور ، و بالنهاية لا يتحقق سوى خسارة و هبوط في مستوى الوجود الأدبي .
إن الأدب و الأديب و الكتابة عموما وجود إنساني راق ، لا يحتاج إلى تقييم ، و لا إلى وصاية ، بل ما يحتاج إلى اعتزاز و احتفاء و توجيه و رعاية ، و علينا ان نتذكّر دوما انه ما من كتابة حقيقية تصدر من داخل الإنسان الا وهي سعي رفيع نحو الكمال و قصد عميق للخير ، فكل ما يصاحب تلك العملية من امور غير مقنعة يجب ان تنحّى جانبا و تبعد عن دائرة الضوء ، و يكون التركيز كل التركيز على الجوانب الفذّة و الجميلة في تجربة كل كاتب لأجل بناء أكمل لنظرية أدب عربية معاصرة .