قراءة في لوحة خالد نصار (ألواني وحلم الحرية).. د. وجدان الخشاب

الجسرة الثقافية الالكترونية

قراءة في لوحة خالد نصار (ألواني وحلم الحرية).. د. وجدان الخشاب

ألواني وحلم الحرية
اللون هو انصهار خالد الإنسان بخالد الفنان، من هذه الفكرة كانت انطلاقة الفنان خالد نصار في رحلته الثرية في عالم التشكيل، عبر خصوصية متألقة تتخذ من الابتكار والتجريب والبحث الدائم وسائل تشتغل باتجاه فضح الظلم الواقع على بلده فلسطين، ويؤشر هذه الفكرة بقوله (المتألم يصرخ ليعبِّر عن الألم، ويسقِط ما يحسُّ في داخله على تلك الصرخة التي يشكِّلها، فتعبِّر عن هذا الألم، ويتحوّل إلى إبداع إن أحسن تشكيله) وبهذا تتحوّل لوحاته، لوحة بعد لوحة، ومعرضاً بعد معرض، إلى مشاهد تحكي قصة شعب مناضل صامد، يتحسس ألمه ونبضاته ومعاناته مؤكداً موقفه بإعلانه (أنا لن أنسلخ عن بني شعبي وأُمّتي، وأسير معهم نحو الحرية) إذاً هو حلمه بالحرية التي لا بُدَّ لها من الحضور والتحقق من خلال عبور النفق المظلم، وهذا ما يؤشره بقوله (أنا دائم الخروج إلى فضاء مفتوح من خلال التدرّج اللوني الداكن إلى الفاتح وصولاً إلى بقعة ضوء في آخر النفق) فاللون يحقق الحرية كما يحقق الأفكار والآمال، ولهذا يتعمد الفنان خالد صنع ألوانه بنفسه، كما يستغني أحياناً عن الفرشاة لتتحوّل يده إلى فرشاة، تتماهى مع الألوان، وتتحسس انفراشها على قماشة اللوحة، فتتوحد ذاكرته ويده وألوانه ومعاناته وحريته، بل يمكنني القول يتحقق وجوده المفعم بالمشاعر الإنسانية النبيلة أيضاً.
عبر مسيرة التاريخ التشكيلي أشّرت الأحداث المجتمعية دافعاً ثريّاً للفنان لينتج لوحاته، كاشفاً من خلالها موقفاً من هذه الأحداث، وتوثيقاً لها، وتأرخة لمشاهدها، وهذا الدافع كان له حضوره أيضاً في تجربة الفنان خالد حيث تكشف تسميات معارضه عن هذا الحضور، مثل: غزة نبض الركام، هنا غزة، في القدس قد نطق الحجر، يوم… وخمسون، نظرة أمل، بلا عنوان، تستحق الحياة، وغداً ستشرق الشمس، اليقين، في أعماق الجرح، إلى أين، سنعود، غزل الألوان، في أعماق النص، لا بُدَّ لليل أن ينجلي، وماذا بعد؟ صرخة لون ألم وحنين، في أعماق اللون، وراء الظل، عودة الروح.

ألواني وحلم الحرية
تكشف إذاً عناوين معارضه عن حضور قضية وطنه وحلمه معاً، وهما قضية وحلم كل فلسطيني، إنّه روح فلسطين المتشكِّلة جرحاً وألماً ولوناً وحلماً بالحرية، تلك الحرية التي تسكنه، ولهذا ينتج لوحاته بشكل متزامن تقريباً مع الأحداث التي تعصف ببلده، فيصبح ناطقاً بجراحاتها وصراعها، ولهذا لا يميل إلى منح لوحاته تسمية بل يكتفي بمنح كل مجموعة اسماً يتلاقى مع دلالاتها.
اليوم (20/2/2015) وأنا أكتب بحثي هذا نشر الفنان خالد نصار خبراً رائعاً هو حصوله على شهادة الدكتوراه الفخرية من المجلس الأعلى للإعلام الفلسطيني، مبارك له هذه الشهادة التي يستحقها لجهوده المبدعة في تجسيد قضية الوطن والظلم الواقع عليه.
من مجموعته التي منحها تسمية (بلا عنوان) أغرتني لوحة باشتغالها، واخترت لها عنواناً (ألواني وحلم الحرية)، وهو عنوان يتفق ـ بتصوري ـ مع دلالاتها، ولا بُدَّ لي من الإشارة إلى أنَّ تسميتي للوحة هو إجراء بحثي، لأنَّ كتابة بحث عن لوحة بلا عنوان يحرمها خصوصيتها كما يحرمها بطاقتها التعريفية التي سترتبط بذاكرة المتلقي.
لوحتان في لوحة (لوحة مركّبة) توجّه يميل إليه الفنانون أحياناً، والفنان خالد بحكم ميله إلى التجريب اتخذ هذا التوجّه في لوحته موضوع هذا البحث، سأُحاول أولاً أن أُحدد تكوين كل لوحة وعناصرها، حيث يبدو أنَّ اللوحة الأُولى تتخذ موقعتها في النصف الأيسر من المستطيل الذي اتخذته اللوحة، أمّا اللوحة الثانية فقد اتخذت موقعتها في النصف الأيمن منها، مع ملاحظة التداخل الصميمي بين اللوحتين، والذي سأتوقف عنده أثناء تحليلي التفصيلي للّوحة.
في النصف الأيسر اعتمد تكوين اللوحة على مجموعة من العناصر هي:

    البحر.
    بقايا جدار.
    بقايا بيوت.
    أشكال إنسانية.
    قارب فيه أشكال إنسانية.
    ظلال.

اتخذ البحر موقعته ليُشكِّل أرضية تتموضع عليها بقية عناصر اللوحة، إذاً اللوحة تؤشِّر بُعداً مكانياً محدداً هو غزّة، تلك المدينة الفلسطينية التي تقع في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني المطل على البحر المتوسط.
والبحر في الواقع العياني يكتسب لونه الأزرق بسبب تشتت موجات هذا اللون في جزيئات الماء، فيتمظهر به، لكنّ بحر الفنان خالد بحر خاص لا يتشابه مع البحر المتوسط ولا مع غيره من بحار الكرة الأرضية، لأنَّ الفنان منحه وظيفة تسريد الأحداث التي تعلنها هذه اللوحة، ولتحقيق هذه الوظيفة عمد الفنان إلى موضعة بقايا الجدار وبقايا البيوت والأشكال الإنسانية عليه، فلم يحاول عزلها مكانياً على الشاطئ، وإنّما جعلها تبدو وكأنها جزء تكويني من البحر مؤشِّراً دلالة عميقة هي الانصهار بين عناصر التكوين، ووحدة موقفها، وتأثرها بالأحداث، وبذلك يتحوّل البحر إلى كائن حي ينفعل بالأحداث، وهذا التفاعل هو الآخر أكسبه صفة الشاهد على الأحداث أيضاً.
في الواقع العياني يشكِّل الجدار مصدّاً يحجز ما وراءه، ويمنع انكشاف التكوينات التي يحتويها، لكنَّ الفنان خالد منح الجدار وظيفة أُخرى مغايرة، فهو ليس بالمصدّ ولا الجزء الحامي لما خلفه، لأنّه بقايا جدار ينتصب في البحر ، وتحوّلت حجارته إلى أشكال إنسانية مجرّدة ، وظلال لأشكال إنسانية، فالأشكال الإنسانية اتخذت صفة التجريد، لكنّ المتلقي يكتشف من خلال النظرة المدققة المتفحصة أن الشكل القريب الأول يبدو لرجل لأنه أكبر حجما فيما تؤشر الأشكال الأخرى للأطفال، وهذا ما يؤكده اعتماد الفنان تظهير الأطفال بمظهر التبعية للأب في المعاناة والمصير.

ألواني وحلم الحرية
هنا أوقفني تساؤل طرح نفسه: لماذا يقف الرجل أمام الجدار وجهه باتجاهه وليس العكس؟
لتكوين تصوِّر دلالي عن هذه الوقفة كان لا بُدَّ لي من تأويل كينونة الجدار ذاته، حيث يكشف المسح البصري له عن تمظهر ظلالٍ لأجساد بشرية متداخلة وضبابية تمتد وتتماهى مع امتداد الجدار، إذاً هو ليس الجدار العادي الذي تعرفه الذاكرة الجمعية في الواقع العياني، إنّما جدار حَدَثي شكّل سجلاً للأحداث القاسية التي عانتها غزّة جرّاء اعتداءات العدو المتكررة التي أنتجت شهداء من الرجال والنساء والأطفال، إنّه يؤرخ للأحداث وسوداويتها.
ودليلي في هذا أنَّ هذه اللوحة هي واحدة من مجموعة لوحات أنتجها الفنان خالد تحت تسمية (بلا عنوان) هنا سيطرح تساؤل نفسه: لماذا حرم الفنان هذه المجموعة من عنوان محدد كما فعل في مجموعاته الأُخرى؟
العنوان هو الباب الذي ينفتح ليدعو المتلقي إلى الدخول إلى عالم المنتَج سواء أكان إبداعياً أم علمياً، وبالتالي فهو يؤدي وظيفة إغرائية له، وحين يجرِّد الفنان لوحة أو مجموعة من لوحاته من توصيف عنواني إنّما يحمل في داخله مؤشراً على أنَّ ما ستطرحه من أحداث تحمل من هولها وكارثيتها ما هو أكبر من أن يحدّه أو يخصصه عنوان، ويؤشّر في الوقت ذاته أكثر من حدث يستحق أن يُسجَّل في أكثر من لوحة، وهو بذلك يحيل إلى فكرة أنَّ اللوحة موقف من حدث، والفن يحمل في تجاربه مواقف، ويؤرِّخ لأحداثٍ، فهل كان الفنان موفّقاً في هذا الطرح؟
بما أنَّ وظيفة الناقد تكمن في فكِّ وتوضيح وتقريب الرموز ومحمولاتها الدلالية التي يبثها الفنان في عالمه الافتراضي (اللوحة الفنية) ليتمكن من خلالها تشكيل إجابة افتراضية مقنعة، سأُحيل المتلقي إلى ما جسّدته اللوحة من أشكال إنسانية تتماهى مع الحجارة، وما تحيل إليه من تاريخ فلسطين النضالي، حيث أنَّ توصيف (أطفال الحجارة) هو ما أُطلِق على أطفال غزّة في انتفاضتها نهاية عام 1987م، إذاً اللوحة تحمل رمزيتها التاريخية النضالية.
يشير الباحث ناصر الرباط إلى أنَّ العمارة مُنتج إنساني مادي، موجودة بذاتها ومرئية لكل ذي عينين، ذات وظائف حياتية وطبيعية ومعنوية وأبعاد جمالية وفراغية، ودلالات اجتماعية وتاريخية واقتصادية ورمزية، وهي ترتبط بالذاكرة الإنسانية، فالعمارة تؤطّر الذاكرة، وتجذّرها وتعطيها شكلاً.
هذه هي العمارة أو المدينة في الواقع العياني، فهل بدت عمارة الفنان خالد بهذه الكيفية؟

ألواني وحلم الحرية
(بقايا بيوت) هو العنصر الثالث من عناصر تكوين هذه اللوحة، وهي تؤشِّر رمزيتها لمدينة غزّة، مدينة الصمود البطولي التي عانت كثيراً بسبب القصف الذي أفقدها جماليتها، ووظائفيتها، وحوَّلها إلى بقايا شاخصة، لكنّ شخوصها كما أكّد الفنان هو عامل استمرارها، ونهوضها مرة مضافة، والإنسان فيها يتحوّل هو الآخر إلى دليل شاخص، فالفلسطيني يموت واقفاً مثل الشجرة، ولهذا لا نجد في هذه اللوحة جثثاً تتمدد أُفقياً في حالة موت، وإنّما بدا وقوفها عمودياً، مما يؤشِّر دلالات الصبر والصمود.
يطرح المسح البصري للأشكال عن قارب صغير يحمل (3) أشخاصًا في البحر، وفي الواقع العياني يمثّل القارب واسطة انتقال من مكان لآخر، فهل أدّى قارب الفنان خالد هذه الوظيفة؟
يبدو لي أنَّ القارب وإن تموضع في البحر إلاّ إنَّ الأشخاص الثلاثة الموجودين فيه إنَّما تتجه أنظارهم إلى غزّة، فهم وإن كانوا ينوون الرحيل والهجرة إلاّ إنَّ قلوبهم تتجه إليها، وربّما بدا ابتعادهم مؤقتاً ومحمّلاً بأمل العودة إليها بعد هدأة الأحداث.
إنَّ تفعيل الإدراك الحسّي للمتلقي يمكن له أن يتحقق من خلال إثارة عنصري التأمّل والدهشة، لأنّهما سيشتغلان باتجاه تحقيق عملية التواصل الفاعل بين الثلاثي الأساس: الفنان واللوحة والمتلقي، وبهذا يمكن للفن أن يحقق إحدى وظائفه ألا وهي التواصل، لأنَّ الفن يستطيع أن يحمل دلالات متعددة تنفتح من خلالها عوالم جديدة، وتنكشف حقائق قد لا يلتفت إليها المتلقي في واقعه العياني، أو يعيد تمثيل المشهد الواقعي بواقع افتراضي يشتغل باتجاه محاورة المتلقي، وترسيم موقفه من اللوحة، وهذا ما يحاوله الفنان خالد في لوحاته الفلسطينية الخالصة موقفاً وروحاً.
سأُحاول قراءة المنظومة اللونية التي فرشها الفنان خالد في هذه اللوحة لاكتشاف مديات توافقها مع الدلالات التي منحها للأشكال المتموضعة فيها.. اتخذ البحر اللون الأزرق المتدرّج والمتداخل أيضاً مع ألوان أُخرى، حيث أضاف الفنان لمسات فرشاة من اللون البرتقالي والبني والأخضر معتمداً خاصية التدرّج، يقابلها مبقّعات لونية ضبابية من الأحمر المتدرّج والمتداخل أيضاً، يتوسطهما اللون الأبيض – لون النور- ولكنه هو الآخر مشوب بلمسات ضبابية تمنع ظهوره بشكله النقي، وتشكّل ظلال الجدار الساقطة على صفحة البحر تنصيفاً لهذه المساحة. إنَّ الألوان المفروشة في يسار اللوحة تؤشّر إيحاءً بالصفاء النسبي لمياه البحر، فيما تسود الضبابية الجزء الثاني المتموقع يمين اللوحة، ويكتمل المشهد الضبابي بافتراش اللون الأزرق الجزء الأسفل من اللوحة.
يعكس هذا الافتراش اللوني دلالات متداخلة من حياة وصفاء وتجدد يؤشِّره اللون الأزرق وكذلك البرتقالي، فيما يؤشِّر الأحمر الضبابي لون الدم المهدور ظلماً، ويؤازره الأزرق الضبابي المتدرّج إلى النيلي ليكشف عن حزن عميق يتجسّد أيضاً في اللون الأزرق المتدرّج الذي اتخذه الجدار والأشكال الإنسانية، فهو أزرق مشوب بلمسات ضبابية، مع تمظهر للون الأحمر ـ لون الدم ـ في أكثر من موضع.
إنَّ تشويه المنظور هو خدعة هندسية لا يمكن أن تحقق إلاَّ على الورق، ولا يمكن تحقيقها في الواقع العياني، وهذا ما اشتغل الفنان خالد باتجاهه حين عمد إلى تقسيم اللوحة إلى لوحتين، وكذلك رسم كل لوحة بمنظور يختلف عن الأُخرى، ولهذا سأبدأ بتحليل اللوحة الثانية التي تشغل النصف الأيمن من اللوحة، حيث اعتمد الفنان في تكوينها على مجموعة أشكال أو عناصر هي:

    البحر.
    الأرض.
    الرجل.
    المرأة.
    هالة الضياء.

يعلن البحر عن تموضعه في الجزء الأسفل من اللوحة متخذاً شكل امتداد أُفقي، فيما تشكِّل قطعة أرض صغيرة وجوداً واضحاً، ويتخذ الرجل موقعه وقوفاً عند حافتها، وتتخذ المرأة موقعها في منتصف الجزء الأسفل من اللوحة تقريباً.
رغم صفة التجريد التي منحها الفنان للرجل إلاّ إنَّ المتلقي يمكنه تمييز علامات عدّة اعتنى الفنان بتظهيرها لتكون دليلاً، فهو رجل يبدو في حدود عقده الأربعين، يتخذ مظهراً جانبياً وليس مواجهاً للمتلقي، فهو ليس معنياً بالتمظهر بل ما يشغله هو التأمّل والتفكّر، ودليلي في هذا الطرح هو تعمّد الفنان موضعته بحيث يدير ظهره للأحداث الكارثية التي عرضها في اللوحة الأُولى، ولكنه ليس منفصلاً تماماً عنها ، بل يقف على امتداد الأرض نفسها، إنها الأرض إذاً.. الوطن الذي يجمع ويوّحد الأشكال الإنسانية في هذه اللوحة، إذاً لماذا منح الفنان خالد الرجل هذا التمظهر؟
بما أنَّ اللوحة تحكي في مشهدها الحَدّثي ما وقع على غزّة من أحداث فالرجل إذاً من غزّة، وعاش أحداثها المأساوية بتفصيلاتها المؤلمة، ولكنّ هذه الأحداث لم تجرّده من إنسانيته، ولا من أحلامه، ولا من المستقبل الذي ينظر إليه.
رغم أنّ المرأة اتخذت موضعتها بعيداً إلى الوراء من محل وقوف الرجل، مستندة إلى جدار بدا أقرب إلى الوهم، إلاّ إنّها تتشح بالبياض الكامل أولاً، وتقف على درجة ثانياً، وهذا الاتشاح بالقماش الأبيض يبدو لي كفناً، كما أنَّ ارتفاع جسدها على درجة بحيث تبدو أعلى مكاناً ومكانةً من الرجل هو دليل على استشهادها، ولكنها ككل فلسطيني تموت واقفة أيضاً، مما يمنحها صفة رمزية عالية لكل امرأة فلسطينية، ولكن لماذا اتخذت موضعتها وراء الرجل؟
إنّها المرأة المتآزرة والساندة حتى وإن كانت ميتة، فالأمل لا يموت بموت شخص وإنّما كل موت يتحوّل إلى دافع للحياة والاستمرار، ولهذا يقف الرجل وحيداً.. متأملاً، ودليلي في هذا هي لمسات فرشاة منحها الفنان لرأس الرجل فبدا وكأنّه يلبس غطاءً للرأس، لكونه موطن الفكر والابداع، في الوقت ذاته لن يتمظهر جسمه بتفصيلاته التكوينية بل اكتفى بالخطوط الخارجية لهذا الجسم.
إذاً اللوحة الأولى جسّدت حالة الاستلاب بكل ما تحمله من قيم سلبية ، لكنَّ اللوحة الثانية تحمل دلالاتها على التحوّل والتجاوز من خلال حضور الأمل، فما هو الأمل؟
يطرح د. عبد المحسن إبراهيم ديغم تعريفه للأمل بوصفه مجموعة من قوة الإرادة وقوة الدافع التي يملكها الإنسان لبلوغ أهدافه.
حدد هذا التعريف مكوِّنات الأمل التي سأتوقف عندها لمعرفة مدى حضورها في هذه اللوحة المركّبة، أي حضورها على المستويين: التكوين والدلالة، فعلى مستوى التكوين يجسّد الأمل حضوره من خلال هالات الضياء التي اتخذت موقعتها على قماشة اللوحة، فشغلت أكثر مساحتها (اللوحة الثانية) متخذة شكل انثيالات تهبط من أعلى اللوحة لتحيط بجسم الرجل. وهذه الهالات بألوانها ذات الدلالات المشرقة، فالبرتقالي المتدرِّج رمز الحرارة والعنفوان والأمل، واللون الأزرق المتدرّج الذي يصل إلى التركوازي، واللون الأخضر المتدرّج رمز الحياة والتجدد والانبعاث، واللون الأصفر بدلالاته على الضوء والشمس والحرارة، وتداخله مع الأخضر والأبيض بنقائه منح دلالاته قيماً عالية، لأنَّ الفنان اعتمد الدرجات الفاتحة المشرقة مؤشراً حضور الإضاءة العالية مما يمنح الأمل حضوراً متميزاً، وبالمقابل أكسب الفنان خالد الألوان روحاً وثراءً، وفي هذا الصدد يشير الناقد الفني والمنظّر الانكليزي جون رسكن إلى واحد من وظائف الألوان بقوله (اللون هو مصدر الثراء في أعظم الأعمال الفنية المبدعة).
إنَّ اعتماد الفنان خالد هذا الانثيال اللوني المحمّل بالإشراق في هذه المساحة الكبيرة نسبيا،ً قياساً إلى المساحة التي منحها للأشكال في اللوحتين يؤكّد فكرته التي تعلن أنَّ حرب الإنسان ضد العنف والقتل والقسوة لا تكون دائماً بالأساليب نفسها، بل هو إيمان بأنَّ قيم الخير والحق والجمال والأمل هي أفضل طرق محاربة القيم السلبية التي لا تقتل الإنسان فقط بل تحاول قتل كل حضور للجمال الذي هو مؤشر من مؤشرات الحياة الإنسانية الراقية.
الفن ـ حسب كروتشه ـ هو التكافؤ الكامل بين العاطفة التي يحسّها الفنان وبين الموضوع الذي يعبّر به عن هذه العاطفة، أي بين الحدس والتعبير، من هنا لا بُدَّ لي من طرح فكرة الفنان خالد التي تعلن أنَّ الأمل لا يتحقق فقط بهالات الضياء المشرقة التي توقعت حول جسم الرجل، بل أمل يحمل ألمه أيضاً، ودليلي في هذا هو لمسات الفرشاة باللون الأحمر التي تموضعت على الجزء الأيسر (موضع القلب البشري) وكذلك اللمسات بالأحمر أيضاً التي بدت وكأنّها انعكاس أو ظل غطّى الجزء الأكبر من الظل الذي أوجده جسم الرجل على صفحة البحر.
أشرتُ إلى أنَّ الفنان خالد أكّد التداخل الصميمي بين اللوحتين في هذه اللوحة، حيث عمد إلى تظهير الجزء العلوي من الجدار وهو ينزف دماً بدلالة اللون الأحمر الذي منحه صفة السيولة، لكنّه تعمّد أن يكون النزيف في أعلى الجدار، لما يكتسبه العلو من قيمة، هنا سيطرح تساؤل نفسه: لماذا جعل الفنان الدماء تسيل من أعلى الجدار الأُفقي بشكل عمودي؟
في محاولتي الإجابة عن هذا التساؤل لا بُدَّ لي أن أذكر أنّ كل عملية تضاد تشكِّل بُعداً جمالياً، فالخط الأُفقي يحمل دلالته على السكون والموت، أمّا الخط أو الشكل الذي يأخذ تمظهراً عمودياً فيحيل إلى القوة النامية القادرة على إنجاز فعلٍ ما، لكنَّ الفنان خالد منح انسيال الدماء اتجاهاً عمودياً نازلاً من الأعلى ليمنح المتلقي شعوراً باستمرارية فعل القتل وإسالة الدماء الطاهرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى