أم كلثوم وعبد الوهاب ودرويش العلامات الكبرى في الغناء

الجسرة الثقافية الالكترونية

*جهاد فاضل

المصدر: الراية

 

كان الغناء المصري عندما بدأت أم كلثوم خطواتها الأولى بالقاهرة في العشرينيات من القرن الماضي قد وصل إلى طريق مسدود، وتجمدت حناجر المطربات والمطربين على الطريقة التركية أو العثمانية في الأداء، مشوبة بطريقة الأداء الغجرية كما عرفها الريف المصري بوجه خاص في ذلك العصر.

 

وتوقف الغناء عند تواشيح الشيخ محمد المسلوب وأدوار محمد عثمان. وسيطرت على ساحة الغناء في القصور والسرادقات، وعلى امتداد الريف والحضر، أصوات أفسدتها هذه الطريقة العثمانية حتى فسدت أذواق المستمعين لطول إدمانهم سماع الغناء بها، والتي كان آخر أبطالها الشيخ سلامة حجازي والسيدة منيرة المهدية. وقد لبثت أسطوانات الشيخ سلامة مسيطرة على الأسماع حتى بعد وفاته سنة 1917. أما منيرة فلبثت سلطانة على ليالي القاهرة إلى منتصف العشرينيات.

 

ثم جاءت ثورة 1919 الشعبية في مصر، ومسّت التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية في الغناء بعد هذه الثورة. وظهر سيد درويش وظهر عبدالوهاب، ثم ظهرت أم كلثوم وهؤلاء هم العلامات الثلاث الكبرى في الغناء المصري خلال نهضته حتى اليوم مع من جاء بعدهم من كبار الملحنين والمطربين والعازفين، وقد كان هذا التحول الفني عاصفة تاريخية اكتسحت الهشيم القديم.

 

أم كلثوم، في الغناء، رمز هذا التحول، والمثل المتوهج أمام عيون المطربين والمطربات فضلًا عن ملايين المستمعين.

 

ومنذ أواخر العشرينيات بدا واضحًا أن مستقبل الغناء المصري والعربي بوجه عام متعلق بالصوتين الجديدين أم كلثوم وعبدالوهاب، حتى قال أمير الشعراء أحمد شوقي يخاطب الملك فؤاد عند افتتاح معهد الموسيقى العربية الذي بُني على الطراز الأندلسي وسط القاهرة في أواخر العشرينيات:

 

لما بنيتَ الأبكَ واستوهبتَه

 

بعث الهزارَ وأرسل الورقاءَ

 

“والأبك” هو معهد الموسيقى بشهبه شوقي بالأبكة التي تأوي إليها الأطيار المغردة. أما الهزار فهو محمد عبدالوهاب الذي كان صوته في تلك الفترة في قمة صفائه ونضجه قبل أن يعدو عليه الزمان ويفقده خصائصه الجمالية.

 

وأما “الورقاء” ، أي الحمامة الساجعة، فهي كوكب الشرق أم كلثوم.

 

وهكذا حصر شوقي أمل الغناء المصري في التطور والتجدد والعودة إلى النهج العربي في أم كلثوم وعبدالوهاب!

 

جاءت أم كلثوم بصوتها من حلقات الإنشاد الديني مدربًا على أصول الغناء العربي الكلاسيكي، وهذا الغناء يقوم على تركيز الصوت فوق مساحته كلها، كما يفعلون في الغناء الكلاسيكي الأوروبي وبخاصة غناء الأوبرا، ولكن بدون تشويه أسس الغناء العربي، وبشرط الاحتفاظ الصارم بشعرة معاوية الفنية التي تفصل كما تجمع في الوقت نفسه بين الأصول الكلاسيكية للغناء العربي والغناء الأوروبي والأوبرالي بوجه خاص.

 

غنت أم كلثوم بأسلوب يجمع بين الأصول الكلاسيكية للغناء العربي والغناء الأوروبي مع كونها مطربة عربية خالصة العروبة، يمتلئ غناؤها بأرباع الأصوات المفعمة بالطرب، وتحرص في غنائها على التطبيق الصارم للعروض الشعري والعروض الموسيقي العربي معًا، وإعطاء الألفاظ العربية حقها كاملًا.

 

وهذه الطريقة الكلثومية في الأداء، التي تعلمتها باجتهادها وعبقريتها الخاصة هي التي جعلت مغنيات الأوبرا المصريات يبدين إعجابهن بها، حتى قالت مرة إحدى مطربات الأوبرا: إن أم كلثوم تغني بالطريقة العالمية. أي بالطريقة التي لا يجد حتى مطربات الأوبرا مطعنًا فنيًا عليها.

 

وقد وصلت أم كلثوم إلى هذا المستوى الفني الرفيع في الوقت الذي كانت فيه مطربات القاهرة المشهورات مجرد “عوالم” أو “أسطوات” يسطعن في الأفراح والليالي الملاح، يخلطن غناءهن البدائي بالرقص والزغاريد ورش الملح على رؤوس العرائس حتى يطردن عنهن الحسد ويجلبن لهن الحظ السعيد!

 

ويقول الناقد الكبير الراحل كمال النجمي في دراسته عن أم كلثوم إن الملحنين المصريين وجدوا في صوت أم كلثوم الذي بلغ مستوى عاليًا في التدريب، فرصة لتجديد ألحانهم وتطويرها، وفتح صوتها لهم بابا واسعا لتطوير الغناء العربي ومحاولة خلقه من جديد، واستصلاح أرضه التي أصابها التصحر على امتداد مئات السنين. وقد بلغ أحدهما، وهو رياض السنباطي غاية التوفيق في هذا المجال، فنطق الغناء العربي في ألحان هذا الفنان المجدد نطقا جديد اللهجة لم يكن يخطر على بال الملحنين الذين سبقوه، ولم يكن السنباطي بقادر على بلوغ هذا الشأن لولا الإمكانات الجديدة التي أتاحها صوت أم كلثوم لألحانه، وكل من لحنوا لأم كلثوم بعد السنباطي كانوا يتأثرون بخطاه في التلحين لها. وقد أنجز ملحنو أم كلثوم في جملتهم عملا فنيا جبارا للغناء العربي لم يكن إنجازه ممكنا بغير وجود صوت أم كلثوم، بل إن العازفين الذين انضموا إلى أوركسترا أو تخت أم كلثوم، وعملوا معها عشرات السنين، اكتسبوا في العزف مهارات فنية لم يكتسبها العازفون الذين لم يتح لهم العزف مع أم كلثوم، من ذلك ما اعترف به شيخ عازفي الكمان أحمد الحفناوي من أن الأبواب الجديدة المتطورة في عزف الكمان قد تفتحت له من متابعته لغناء أم كلثوم وهو جالس وراءها يعزف مع بقية زملائه منذ أوائل الثلاثينيات.

 

وهكذا أسهمت أم كلثوم إسهامًا جوهريًا في خلق الأساليب الجديدة والمتطورة للتلحين والعزف والإيقاع أيضا. ذلك أن شيخ فناني الإيقاع في زمانه إبراهيم عفيفي، لم تكتمل أدواته في عصر منيرة المهدية وقد كان ضابط الإيقاع في تختها، بل اكتملت في أثناء عمله في تخت أم كلثوم، حتى صار أبرع ضارب إيقاع في تاريخ الموسيقى العربية.

 

وعندما اعترض بعض المتحذلقين من أعضاء المجلس الأعلى للفنون والآداب على منح أم كلثوم جائزة الدولة التقديرية في الفن، في الستينيات قال كمال النجمي في مقال له: إن أم كلثوم تشترك بصوتها اشتراكًا فعالًا في خلق اللحن، إلى الحد الذي يجعل السامع لا يتصوره بدونها وأدائها ومشاركتها في تشكيله وإقراره على الصيغة النهائية التي تصل إلى المستمعين على أوتار حنجرتها. تأخذ أم كلثوم اللحن “فتكلثمه” على حد تعبير عبدالوهاب، أي تجعله كلثومي الصورة والمذاق واللون والرائحة، وتهيئ له عمليات فنية دقيقة متأنية حتى تجلوه آخر الأمر في صورته الكلثومية الخاصة التي تلمس قلوب المستمعين وعقولهم وأجسادهم، كأنها مس من الوجد الصوفي، أو طائف من السحر العجيب!

 

ولا يبالغ كمال النجمي في الواقع في أحكامه. إن المرء إذا راجع تاريخ الغناء المصري والعربي على مدار القرن العشرين، يجد أن القانون الأساسي الذي حكم عالم هذا الغناء طوال الخمسين سنة الماضية، هو القانون الكلثومي.

 

فلم يكن بد لكل مطربة من التمرس بالعلوم الغنائية التي هي حصيلة غناء أم كلثوم طوال السنين ولا توجد مطربة في مصر أو في أي بلد عربي، مهما كان لون غنائها، لم تتعلم شيئا من أم كلثوم، ولكن المطربات تفاوتن فيما طبعن به أساليبهن في الغناء حتى ليكاد أثر الغناء الكلثومي يخفى في أساليبهن الغنائية. وأبرز هؤلاء المطربة فيروز ثم فايزة أحمد. وهاتان هما أعظم المطربات شأنا بعد أسمهان طوال عصر أم كلثوم!

 

ويعقد النجمي فصلا عن صوتها. فعنده أن معدن صوتها الذهبي لا يصدأ أبدا.

 

لقد برهنت الأيام المريرة على أنه صوت ذهبي بالمعنى المعروف لهذه الكلمة فالصدأ لا يتطرق إليه. ولكن حتى الذهب يتحرك مع الزمن ويتشكل مرة بعد مرة.

 

وهذا تقريبا ما أتفق لصوت أم كلثوم في تعامله مع الظروف الكثيرة التي تأثر بها في مراحله المختلفة.

 

إن كتلة الذهب الهائلة التي صيغ منها صوت أم كلثوم لم تجمد على صياغة واحدة طوال مراحلها الزمنية والفنية.

 

لقد استوفى صوت أم كلثوم نضجه منذ بداية الثلاثينيات وامتلأ بالروعة التامة من قمته العليا الساطعة كعين الشمس إلى سفوحة الخضراء الفاتنة.

 

أما “أراضيه” فلم يتوقف عندما ملحنو أغاني أم كلثوم حينذاك ، لأن الثراء الأسطوري في قممه وسفوحه أغرى الملحنين باستغلالها حتى استنفدوا طاقتهم هناك.

 

وهكذا أسمعتنا أم كلثوم في الثلاثينيات ألحان القصبجي ذات النغمات والترجيعات الطويلة.

 

ولم يكن هذا أول عهدها بالمد والترجيع الطويل. فقد كانت أغانيها التي لحنها لها أحمد صبري النجريدي وأبو العلا محمد في العشرينيات حافلة بالنغمات العالية التي تمس الأطراف العليا للصوت ، ولا تهبط إلى السطح لتستقر فيه، بل لتحتشد وتتأهب للصعود إلى القمم مرة أخرى.

 

وبعد انقضاء هذه الفترة وانتهاء العهد الأول للقصبجي في الثلاثينيات، بدأ السنباطي رحلته الموفقة مع الصوت الكلثومي في نفس الطريق تقريبا، فاستمع الجمهور إلى ألحانه الرائعة لأم كلثوم: افرح يا قلبي، قضيت حياتي، النوم يداعب عيون حبيبي، يا ليلة العيد..

 

ثم جاءت التجربة العريضة لزكريا أحمد مع صوت أم كلثوم في الألحان التي صاغ بها كلمات بيرم التونسي في الأربعينيات.

 

وخلال هذه التجربة الناجحة الغنية تذكرت أم كلثوم أغانيها التي اشتهرت بها في العشرينيات عندما كانت صبية صغيرة موهوبة، فأخذت خلال الأربعينيات تخصص وصلة في بعض حفلاتها لأداء إحدى أغاني العشرينيات مثل: وحقك أنت المني والطلب، وأفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا.

 

في الأربعينيات أصبحت أم كلثوم بلا شريك من المطربات والمطربين فقد اندثر صوت منيرة المهدية، وتراجعت فتحية أحمد والمطربات الأخريات ، وانتهت منافسة عبدالوهاب لها بوصفه مطربا بعد الذي طرأ على صوته من تغيرات فسيولوجية أفقدته الكثير من ميزاته التي كانت له في العشرينيات وبداية الثلاثنيات.

 

وهكذا أصبح كل المستمعين يدينون بالولاء لصوت أم كلثوم وحده، ويدركون نفاسة معدنه واستحالة وجود قطعتين من هذا المعدن النفيس في زمن واحد وعالم واحد لأن وجود هذا المعدن النفيس المدهش المتمثل في صوت أم كلثوم ليس إلا فلتة من فلتات الدهر لا تتكرر إلا بمصادفة فذة على امتداد الحقب.

 

واختتمت أم كلثوم مرحلة الأربعينيات بروائعها التي لحنها السنباطي : سلوا قلبي، من أي عهد وفي الأرض شر مقاديره، ريم على القاع، ولد الهدى، رباعيات الخيام.

 

سافرت أم كلثوم في بداية الخمسينيات إلى الولايات المتحدة لعلاج الغدة الدرقية، ولما عادت وقد عوفيت، بدأت مرحلة جديدة في الصوت والأداء تناسب الصياغة الجديدة لكتلة الذهب في صوتها بعد أن تعاقبت عليه عوامل فيزيولوجية مختلفة. وقد بدا واضحا أن التبعات الفنية الجديدة التي تنتظر صوتها أضخم من كل التبعات الفنية التي نهض بها وأداها.

 

ولا ينسى أحد روائع أم كلثوم في هذه الفترة، فقد لحن لها السنباطي مجموعة من القمم الغنائية.

 

وفي أواخر هذه الفترة لاحظ المستمعون أن الخصائص الجمالية في صوت أم كلثوم تزداد تركيزا، فإن انتشار هذه الخصائص على مساحة صوتية شاسعة ، كان من شأنه في الماضي أن يقلل من تركيز هذه الخصائص النادرة.

 

وأصبح واضحا أنه كلما تركزت خصائص الجمال في صوت أم كلثوم برزت روعته أكثر مما كانت في الماضي بل برزت فيه روعة جديرة كانت خافية.

 

يمكن القول إن صوت أم كلثوم هو بلاشك فلتة من فلتات الغناء العربي، وقد أسهم هذا الصوت إسهاما جوهريا في خلق أسلوب التلحين العربي الحديث المتطور، وتحديد مساره، وأتاح للملحنين أن يجوبوا آفاقا باهرة ما كانت تخطر لهم على بال لولا وجود هذا الصوت الذي حملهم إلى تلك الآفاق.

 

لقد فتح صوت أم كلثوم أبوابا للتلحين الجديد المتطور كان يتعذر أن تنفتح لملحني عصرنا لولا إمكاناته الفنية الرفيعة التي يعتبر وجودها مجتمعة في صوت واحد سخاء على عشاق فن الغناء لا يسمح به بالزمان إلا مرة كل بضع مئات من السنين.

 

إن صوت أم كلثوم بمقدرته الهائلة ومساحته الخصبة ومقاماته المصقولة المضبوطة ذات التناسب العجيب، وذبذباته السحرية ونبراته الوضيئة التي تتمثل فيها ألوان من لمحات الجمال، والجاذبية والقوة لا نهاية لها.

 

إن صوتها هذا الذي أهدته المصادفات المباركة لعصرنا ، هو الذي أشعل مواهب الملحنين ، وأثار روح المنافسة بينهم ، وألهمهم ألحانا حاولوا دائما ما وسعهم الجهد أن تكون على مستواه، وحرصوا دائما أن يلبوا متطلباته من الألحان التي لا يستطيع صوت سواه أداءها والتصرف في أدائها وإضافة اللمسات الفنية إليها لتكوين مذاقها الفني الفريد الذي ربط المستمعين به أكثر من نصف قرن.

 

ومن خلال صوت أم كلثوم انبعثت محاولات الموسيقار محمد القصبجي ابتداءً من أغنية “إن كنت أسامح” في نهاية العشرينيات ، إلى ألحان هذا الموسيقار المجدد التي كتبها في الثلاثينيات والأربعينيات.

 

وصوت أم كلثوم هو الذي جلا على الأسماع ألحان زكريا أحمد ورياض السنباطي ومن صوتها استمد كلاهما روحا معنوية غامرة دفعته إلى تجويد تلك الألحان.

 

صوت أم كلثوم رصيد فني لا ينضب ، وإلى رصيد صاحبته استند كل من لحن لها بعد الشيخ أبو العلا والقصبجي وزكريا والسنباطي.

 

ولا ننسى أن أم كلثوم تشترك بصوتها وفنها اشتراكا فعالا في خلق اللحن إلى الحد الذي يجعل السامع لا يتصوره بدون صوتها وأدائها ومشاركتها في تشكيله وإقراره على صيغته النهائية التي تصل إلى المستمعين.

 

وفي تاريخ الغناء العربي لا مثيل لأم كلثوم في هذا المجال إلا فيما ندر ولا يذكر تاريخ الغناء العربي إلا أصواتا قليلة جدا غنت للناس وتفننت عشرات السنين بقوة دائمة وتجديد لا ينقطع . كان صوت أم كلثوم، نغم مصر الجميل، في مقدمة هذه الأصوات وأكثرها خلودا بلا جدال!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى