«خيل تايهة» فلسطينية في مهرجان الشارقة المسرحي
الجسرة الثقافية الالكترونية
*عبده وازن
المصدر: الحياة
كم بدا لافتاً ومصيباً افتتاح مهرجان الشارقة المسرحي الذي يحتفي بالذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسه بمسرحية فلسطينية هي «خيل تايهة» التي كانت فازت بجائزة الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة، كأفضل عرض في الدورة السابعة لمهرجان المسرح العربي الذي أقيم في الرباط. افتتحت هذه المسرحية الفلسطينية الاحتفالية المهرجان معيدةً إلى الجمهور صورة ضائعة لفلسطين وللفلسطينيين «التائهين» الذين يواجهون العواصف ويحلمون بعودتهم إلى «الوطن» المفترض وبعودة «الوطن» إليهم. فرقة «نعم» المسرحية التي أعدت العرض وقدمته جاءت من مدينة الخليل التي يعاني أهلها من قسوة الاحتلال الذي يحاصرها ومن الضغوط التي تمارسها عليهم جماعات أصولية في الداخل، وهذه غالباً ما تضطهد الفن والفنانين وتلقي عليهم اتهامات شتى. والجميل أن المسرحية تضم ممثلات جئن من القدس وفي مقدمهن المغنية المعروفة ريم تلحمي التي غنت مرات مع الفنان مارسيل خليفة.
ولئن كانت «خيل تايهة» في الأصل روايـــة من تألــــيف الكاتب السوري عدنان العودة فإن المخرج إيهاب زاهدة اقتبسها مسرحياً وقلب بنيتها وشخصياتها وأضاف إليها ليخلص إلى نص يميل إلى أن يكون مشهدياً وبصرياً، عطفاً على دراميته العميقة. واعتـــمد المخرج فن الراوي -الممثل وتقنــــية المونولوغ- الديالوغ والغناء والمـــواويل والعزف الموسيقي الحي على الخشبة تأكيداً للطابع الاحتفالي للعرض المسرحي، على أن الاحتفالية هذه جمعت في العرض بين الروح الشعبي والبعد المأسوي المشبع بالغنائية.
إنها حكاية الأم «تايهة» التي تتحول إلى حكاية الابنة «خيل» التي ترث عن أمها حال التيهان بين الريف والصحراء والمدينة، التيهان بين الأهل والغرباء، بيـــن ماض مجهول وغد سيكون مجهولاً أيضاً. كانت «تايهة» طفلة بدوية في الصحراء السورية خرجت مرة لتحضر مــــشطاً لأمها من عند الجارة فهبت عاصفة رملية حملت البنت الصــغيرة ورمتها بعيداً عن بيتها وأهلها. وكان على عائلة أخرى أن تتبناها فتكبر في كنفها وتــتـــزوج وتنجب ابنة تسميها «خيل»… وتنحـــو الحكاية هنا منحى خرافياً، فحـــين تولد «خيل» يحصل ما يشبه الاضطراب في القــرية ويرتفع صهيل الخيل وتتنبأ عرافة القرية (والداية) أن هــذه الوليدة لن تتخطى الثلاثين من عمرها وسوف تموت في عز شبابها. لكنّ «خيل» تكـــسر نبوءة العـــرافة وتعيش وتكتشف أن العــائلة التي ربتها ليست عائلتها وأن أهـــلها توفوا في البادية وأن أمها كانت تأمل أن تنجب صبياً يكون قادراً على الثأر لأبيه الذي قتل بعد حمل الأم «تايهة»… تتحول «خيل» إلى ما يشبه شخصية الراوية التي تملك الحـــكايات وتسردها، وتغدو ذاكرتها هي ذاكــــرة النـــص المتحرك والحي ومنها تنطلق الـــوقائع والشخصيات المستعادة من البيئة وماضيها المتعدد الوجوه.
ليست القصة على طرافتها، سوى منطلق لبناء العرض المسرحي والخلق المشهدي الذي رافقته المواويل والموسيقى، مانحة اللعبة المسرحية أفقاً وجدانياً وغنائياً عالياً. وراح الممثلون والممثلات يؤدون أكثر من شخصية ودور، يتبادلونها متحولين من رواة إلى ممثلين، مؤدين في أحيان مونولوغات صغيرة أو عاقدين ديالوغاتهم كما لو أنهم يؤدون الشخصيات التي يتحدثون عنها. وبدا الأداء هنا حيوياً ومتحولاً ونابضاً بالحركة والدينامية. والشخصيات التي تظهر تباعاً هي من قلب النص والبيئة (بلاد الشام) التي توزعت بين الصحراء والريف والمدينة وهي الأفق المكاني الذي عاشت فيه الشخصيات وتحركت وتاهت. ومن هذه الشخصيات: الأم «تايهة» ، الابنة «خيل»، «هويدي» الذي تبنى الفتاة التائهة، الداية والعرافة، الأستاذ محمد الذي يدرس في القرية، «هزان» الكردي (ما يدل على تعدد الهويات في البيئة المفتوحة)…
اعتمد المخرج مبدأ المسرح الفقير مفسحاً المجال للممثلين كي يجسدوا العرض بحركتهم الجماعية وأجسادهم وتعابيرهم، وبدا الديكور شبه ثابت مع حركة دائمة يملأ بها الممثلون الخشبة. في المشهد الأول أضيئت شموع صغيرة توزعت على الخشبة وارتفع موال حزين ما أوحى بجو شبه جنائزي، ثم راحت المشهدية تسلك خطها التصاعدي حتى تحول الفضاء إلى فضاء حركي وبصري. ووظف المخرج تفاصيل صغيرة كأدوات تعبير ومنها خصوصاً القماش الذي ينتقل من كونه لباساً إلى وشاح طويل يؤدي أكثر من رمز. وبد العرض كأنه سلسلة مشاهد تتوالى وتتداخل وتأسر عين المشاهد ومخيلته.
أما الممثلون فبدوا على مقدار كبير من البراعة والمرونة، ينتقلون بخفة ورهافة بين دور ودور، بين فعل الروي وفعل الأداء، بين سرد الحكاية وتجسيدها. والممثلون هم: ريم تلحمي، محمد الطيطي، ياسمين همار، رائد الشيوخي، حنين طربيه. أما العزف الحي الذي رافق العرض وأضفى عليه المزيد من الحيوية والتعبير فتولاه نور الراعي منتحياً إحدى زوايا الخشبة عازفاً على الكمان والعود والرق، مرافقاً الحركة وغناء ريم تلحمي، صاحبة الصوت الجميل، الشرقي الخامة واللامع في أداء المواويل واللعب على العرب والجمل الميلودية. الموسيقى والألحان من تأليف سعيد مراد.
وكما أفاد البعد الرمزي لعنوان المسرحية «خيل تايهة» فإن الفتاة «خيل» ورثت التيهان عن أمها «تايهة»… إنها مسرحية البحث عن الهوية التائهة، عن الجذور المقتلعة، مسرحية الترحال والضياع في صيغتهما الفلسطينية والعربية. إنها مسرحية الخيول البشرية التائهة التي تبحث عن ضالتها، عن أرضها المفقودة، وعن ذاتها وذاكرتها في قلب الصحراء التي ابتلعت ما ابتلعت من بشر وأمكنة وذكريات.