مسرح عصام محفوظ لا يزال في المدينة

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عبيدو باشا

المصدر: الحياة

 

ليس أولهم ولا آخرهم، المخرج شارل ديك، حين اختار من أوراق عصام محفوظ الثبوتية، مسرحية «الزنزلخت» (قدمها في مسرح بابل)، لأنها من النصوص العصية على النسيان. لا يقع عصام محفوظ في قيود النسيان، بعد موته، لأنه أراد أن لا يموت، بعد موته. لن يشيعه أحدٌ، لأنه لا يزال هنا بين الأدباء والمسرحيين. مسرحه لا تربطه علاقة آثمة بالسنين. بالعكس. آخر الاشتغالات على نصوص عصام محفوظ، كان اشتغال لينا أبيض قبل عامين على «الديكتاتور». نص مرير عن السلطة. السلطة دائماً، التي فككها عصام محفوظ. نص «الزنزلخت»، نص مرير عن السلطة أيضاً، عبر حكاية سعدون والكولونيل، من توزع الرغبات بين الخوف والشجاعة، بين الحسرة والقوة والخذلان. لا يزال الكاتب المسرحي، من أولياء المسرح في لبنان والعالم العربي، يعطي لأيام المسرح طعم النقد المائل، وهو يؤدي دور الشبح المحلق على أطراف المدينة والبلاد. ترك المسرحي دم مسرحه على وحشة البلاد، بحيث لن يكف من يقرأ في وصايا ولي الدم المسرحي، عن قراءة في مسرح لا يسير إلى زوال. فمسرح محفوظ، لا يزال بكامل حيله، بعد أن فقد صاحبه حياته. هكذا لا تزال المدينة في غيابه، العاصي على الغيابات العادية. غسل الناس بأمطار مسرحه وكتاباته الصحافية والشعرية والمسرحية، بالتسامق والحدة. هكذا، غادر الشعر الصافي، كما جاءه. كصاعقة صيفية، لم تلبث أن اختفت على ميلان الطقس، على طبائعها. ثم، حاول الإخراج ما استطاع إليه سبيلاً. كتب المقالة السياسية، على مستوى الشعر ونفي الشعر للسياسة المباشرة. أقام بلبلة مواعيد دائمة مع الأحداث والناس.

لم يرد عصام محفوظ أن يغرق في مفاهيم سداد الديون القديمة. لا أرض حملته إلى ذلك، إلا أرض المسرح. كتب «الزنزلخت» كما كتب «الديكتاتور» و«لماذا رفض سرحان ما قاله الزعيم فرج الحلو» وغيرها من النصوص، الواقعة بين الخيال والواقع، بكلماتها واختلافاتها الداخلية ما منحها قيمها وقيمتها المثلى. مسرح محفوظ، لم يجد وجده، إلا باقتحامات الشعر للسياسة. مسرحه سياسي، ولو أن كل شيء سياسي، حتى النصوص، المدعية أنها إنما تنهل من كل شيء إلا السياسة. غير أن السياسة، في مسرح صاحب تجربة الفصحى العامية، سياسة من قلب السياسة ومجرى الأشياء. لغة حسية إذاً، تكشف الروح الطاهرة والقذرة للناس والبشر، على السواء. لغة، تشبه كاتبها الراكض خارج الذاكرة العربية. لذلك، اختار محفوظ، من لوثة المسرح، الكوميديا السوداء. اختار التغريب، حتى يكشف المرارة بالكأس مرتين لا مرة واحدة. الأخير شفيف الحضور، أمام السواد على كتف الكوميديا. لا إلهام مستوحى من الآلهة هنا، أمام الأحداث العظام المتكررة، في هذه الجمهورية الخائبة، ذات الفلسفة، الأشبه بالقرار على الهاوية. كلما كتب محفوظ، حاول غسل المسرح من الوهن والبكاء ورغبات الحكام وأهل الحكم، إما للفرار وإما لدفن الناس. لا تسامح مع الوصولي، لا تسامح مع المغفل. لأن القانون، لا يحمي المغفلين. ما عانت يداه من الخواء، وهو يروي حكايات التردد والوصولية والقمع والانقلابات على السلطة والذات في السلطة، عبر ثنائيات معروفة في مسرحه. واقع فظ دائم في مسرحه، يواجهه المسرحي بالصفعات، من لياقات تعليمية، حصَّلها من تجربته العملية مع تجربة «محترف بيروت للمسرح» مع روجيه عساف ونضال الأشقر. هكذا، رغب، في مسرحه ومن مسرحه، أن يستضيف القلق، أن يمسح سحابات الكآبة، بالتأكيد على وجودها وتوعدها، ما تبقى للناس والبشر من استقرار. كتب «كارت بلانش». الأصح، أنه كتبها في مصوغها النهائي. لأن «محترف بيروت للمسرح»، محترف ارتجال، ارتضى تسليم مبيضات ارتجالاته، لكتاب مسرحيين، قدموها في مصوغاتها الأخيرة.

خلق عصام محفوظ، بكل ما فعل، القطيعة بين الهدوء وبينه، القطيعة مع الشراكة مع المفاهيم الهرمية. كل شيء عنده ضربة واحدة. بعد الضربة لا شيء. بالأصح. لا ملامسات بريئة، في مسرح محفوظ. لأنه كائن سياسي، لم يمشط شعر السياسة، حين هرب من السياسة إلى الأدب، كما هرب من الشعر إلى المسرح. لا نصف فارغ، ولا نصف ملآن عنده، لأنه ضد السياسة.

المسرح عنده، مستقبل العربية. هذه واحدة من طروحاته الإشكالية. مسرحه والمسرح، طرح إشكالي آخر في حياته، ذات السبابة الاتهامية البارزة. شاب التهمه القلق. رمى قصائده على طاولة يوسف الخال، لكي يوقظه الشاعر من نومته القلقة. وإذا مشى، بين الناس، لم يتجنب الاصطدام بهم، كما لو أنه يمشي في سوق مكتظة. ابتاع لنفسه الكثير من التبغ والكحول، لأنه الأدرى بإرهاق الحبر للكتاب القلقين. من ذلك، جاء مسرحه بعيداً، من صورة اللقمة المحشرجة بالحلق. مسرحه نظرة عبوسة، على وجوه لم تنفك تستدير، حتى يقدم أصحابها اعتذاراتهم بعضهم لبعض. مسرح، أقوى من أن يحلق الآخرون شاربيه أو ذقنه. مسرح أقوى من الأوزان التشكيلية، الخفيفة، المقترحة عليه. لأن نص عصام محفوظ، بيان يتلوه ثائر، أدرى بكل جرائم الجنرالات والأنظمة السياسية، اهترأ قلبه من سياسات ساسته وسياسات من يسوسهم. مسرح، لا يعرفه، إلا من لا يعرفه. لا يعرفه من يعرفه. حيث المعرفة ادعاء معرفة، حيث المعرفة، معرفة متوعدة بقلة المعرفة. لا يزال مسرح الراحل، عصياً، على كل من يعمل بالمسرح، بابتسامة وبهدوء شديد. لا يزال يرفع من سعره، بطرحه رفع جرعات الفهم والتحضير، لا بسبب عمره. بسبب عمقه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى