«جبل النظيف» ترصد البيئة المعدمة في زمن الثورات

الجسرة الثقافية الالكترونية

*سارة ضاهر

المصدر: الحياة

 

لم ننته بعد من اكتشاف أو إعادة اكتشاف الأسباب التي أدّت إلى اندلاع «الثورات» العربية منذ عام 2011. لذلك، سنظل نجد لها آثاراً في معظم نتاجات الأدباء العرب في هذه المرحلة. وهو ما ينطبق على رواية الكاتب الأردني إبراهيم أبو عواد «جبل النظيف» (دار «الكوكب»، الشقيقة لشركة «رياض الريس للكتب والنشر» بيروت). وهي روايته الثالثة بعد «أكفان مغسولة جيداً» و «أشباح الميناء المهجور»، علماً أنّ «جبل النظيف» هو من مناطق وسط مدينة عمّان الأردنية المكتظة بالسكان.

لكنّ الجبل لم يبقَ جبلاً، ولا حتى سكانه تمكّنوا مـــن البقاء بعيداً من أوساخ الرشوة والعـمالة والكذب، بخاصّة جيل الأحفـــاد، مع غياب الجيل المؤسّس عن الحياة وعن الرواية، واستسلام الأبناء «الجيل الثاني» للواقع المأسوي وطابع البيئة المعدَمة. وظهور شخصيات الجيل الثالث، الأحفاد (فايز، بسام، عبدالرحيم…) الذين هم حركة الرواية وبؤرة أحداثها، وإن كانوا لا يدركون ما يفعلون حتى انتهوا إلى لا شيء.

هل المكان هو البطل في الرواية، أو بمعنى آخر، هل هو العامل الأساسي والمحرّك للأحداث في الحياة الواقعيّة؟ هل تخضع الشخصيات لظروف بيئتها، فتتلوّن بلونها الفاسد أو المصلِح؟ أم إنّ البقعة الجغرافيّة تبقى بقعة جغرافيّة أينما حلّت، ويبقى الإنسان إنساناً، يهدم أو يبني، يطوّر أو يدمّر؟

«جبل النظيف»، ذلك المكان الموحل، حيث لا يصل ضوء الشمس إلى نخاع الأزقة الضيّقة. المنازل العشوائية مبنية بصورة متلاصقة إلى حد التزاوج مع جنون الإسمنت المغشوش. فلا الشمس تدخل في شرايين جغرافيا الحلم الواقعي، ولا البشر ينتظرون ضوء الشمس. في ذلك المكان، كلما اقترب الإنسان من الأشياء ابتعد عن نفسه، وكلما ابتعد عن الأشياء اقترب من حزنه. لن تقع عينا الناظر، في هذا المحيط الشاسع من أكواخ الصفيح والأوحال والروائح الكريهة وأكياس القمامة المبعثرة على طول المدى، والتي مزّقتها القطط العمياء، إلا على عيون مكسورة للبشر والحيوانات التي انتخبت المنفى الاختياري في هذا الجبل الذي ليس له من اسمه نصيب. ولن يجد سلال قمامة أمام أبواب البيوت لأنّ السكان يوفّرون بقايا النقود لشراء ما هو أهم من سلال القمامة، لكي يظلوا على قيد الحياة، لا أكثر.

تبدأ الرواية بالصراخ، مخاض الولادة من جهة، ووفاة الحاجة «سارة» من جهة أخرى. صراخ يقتلع حيطان الغرفة الحالكة. حياة تولَد من الموت، من شخصيات الرواية الكثر: الحاجة سارة، أم بسام، الشاعر مازن عبدالله، الشيخ عبدالرحيم الداية، فايز (الحفيد)، محمود بائع الخضرة، عواطف، الأبناء: أبو بسام، عمــــران، زهدي، سليم… حيث التاريـــخ متروك للقادرين على الدفع، وحيـــث المستقبل لم يعرف طريق هـــذا الجبل المنسي في انكسار الــروح. هنــا يصير الهدف من الحياة أن تظــلّ علــى قيـــد الحياة أطول فترة ممكنة هارباً من تاريخ الصراصير المقتولة تحت الأحذية الممزّقة.

تموت الحاجة سارة، يبدأ اللغط، ويتيه السكان. لا يوجد شيء موثّق في كلام أهل الجبل. وكلام الناس خليط من الحق والباطل، فهم يردّدون ما يسمعونه من دون تدقيق، ويقولونه بحسن نيّة. هم لم يتخرجوا في الجامعات لكي يعرفوا المنهج العلمي، كما أن لهاثهم وراء كسرة الخبز جعل تفكيرهم لا يتعدى حدود الراتب الشهري إلا في حالات نادرة.

ولا شك في أن وفاة مثل هذه المرأة التي تعتبر شيخة جبل النظيف سيترك أثراً سلبياً. وعلى أية حال ستستمر حياكة الأساطير حولها، لأنها ليست مجرد امرأة منسيّة في هذا الجبل المنسي، بل هي مادة غنية بالتراث والفلكلور والرموز الشعبية. وبموتها ماتت أمجاد العائلة. ودخلت الرواية في سرد حلقات الانهيار وأسبابه، حلقة حلقة وسبباً سبباً.

جمع عمران (أبو عبدالرحيم) إخوته في بيته. كان هذا الاجتماع ضرورياً لدراسة الضربات المتتابعة التي تلقتها عائلة المخلوسي. فالمصائب تنزل عليهم كالمطر، ولا بد من اتخاذ خطوات ملموسة. فسمعة هذه العائلة على المحك. جلس الإخوة الأربعة في ذاكرة الأحزان. وجوههم غاطسة في ماء الآلام الحارق. إنهم يحملون ميراث هذه العشيرة (آل المخلوسي) على أكتافهم، ولا مفر من الدفاع عنه حتى الرمق الأخير. ولكن، لن يعود الماضي، ولن ترجع عقارب الساعة إلى الوراء. فالأفضل هو إنشاء متحف للعائلة، في سبيل الحفاظ على وزن العشيرة بين العشائر.

هجم الناس على المتحف بصورة هيستيرية. يريدون اكتشاف أسرار هذه العائلة. سعر التذكرة للمواطنين والأشقاء العرب دينار واحد، أمّا سعرها للأجانب فثلاثون ديناراً.

وكان لافتاً حضور السياح الأجانب من كل الجنسيات. يريدون التعرف إلى حياة فايز، وزيارة بيته، والاطلاع على أغراضه الشخصية. فقد أصبح شخصية مشهورة عالمياً بعد انضمامه إلى تنظيم القاعدة.

وقد تلقّت إدارة المتحف عرضاً من إحدى دور المزادات الأوروبية لشراء صور فايز وأوراقه الشخصية. والأمر ما زال قيد البحث.

وأراد صاحب «أكفان مغسولة جيداً» أن تختلف نهاية الرواية عن بدايتها، فتبدّلت أحول الجبل: بدأت الأيام تمرّ كالسراب المفعم بالمشاعر المحروقة. جبل النظيف يغرق في عاصفة ثلجية. لم يأت الثلج إلى هذا المكان الغامض منذ مدة طويلة. الثلج الأزرق يغطي جسد هذا الجبل وأعصابه المرميّة في الشوارع والأزقة. الزمهرير فوق أسطح البيوت، والحارات الكئيبة. فرضت الثلوج حظر التجوّل على السكان. الفراغ عمّ الأرجاء. اختفى الضجيج في العاصفة وذابت الضوضاء في الرعب اللذيذ. اختبأ الناس. العجائز اللواتي كنّ يجلسنّ على أبواب البيوت غبن بين جدران المنازل المتهاوية. التجّار أغلقوا أبواب المحال التجارية. السائقون تركوا سياراتهم في الطرقات. الأطفال اجتمعوا بأمهاتهم المرتعشات أمام مواقد الحطب. بعض «المعوّقين» كانوا ينظرون من الشبابيك ويتمنون أن يلعبوا بالثلج في هذا الجو العنيف.

هذا الانطفاء الصارخ حاصر الزمان والمكان، وأسر الذكريات التي رفعت الراية البيضاء. ركــضت الثلوج إلى شواهد القبور. رائحة الموت تتغلغل في كل شيء. تختلط رائحــــة الموت برائحـــة القهـــوة. ينام الضـــباب على رغوة الدماء، ويصبح الإسمنت يتيماً مثل الكستناء. وحده الموت كان يضيء فوق أسوار مقبرة جبل النظيف. الطيور المتجمدة تحلّق فوق صنوبر الأمجاد الوهمية.

وهناك، عند قبر الحاجّة سارة، كان أرشيف المطر الحمضي يتناثر كأظافر اليتيمات الغارقة في زحمة السحيق. قطة عمياء تنام إلى جانب قبر الحاجة سارة. إنها القطة التي ربّتها في حياتها، وها هي تنام إلى جانبها النومة الأبدية. آثار أقدام على الثلج، وجسدها الطري ممدّد في دموع العاصفة.

كل طريق سيخلع وجهه ويلبس قناعه هرباً من الشمس. لكن الشمس الكامنة في داخل الإنسان لا يمكن الهرب منها أبداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى