لعبة المؤلّف في “شرفة الفردوس” / د. غسان إسماعيل عبد الخالق

الجسرة الثقافية الإلكترونية-خاص- 

التحكّم والسيطرة

يستأنف الكاتب إبراهيم نصر الله في روايته الأحدث “شرفة الفردوس” مقاربة إحدى أبرز الإشكاليات الوجودية في خطابه الروائي بوجه خاص وفي الخطاب الروائي العربي والعالمي بوجه عام، وأعني بها إشكالية (التحكّم والسيطرة)، بكل ما يمكن أن تحيل إليه هذه الإشكالية من قضايا فلسفية / ميتافيزيقية أو فنية / استاطيقية أو واقعية / تراجيدية.

وجه المغامرة في هذه المقاربة، يتمثّل في ضخامة الموروث الإنساني الذي تصدّى لإشكالية (التحكّم والسيطرة) عبر الأديان السماوية والأساطير والفلسفات والآداب والفنون؛ بدءًا من مأساة خروج آدم وحواء من الجنة، مرورًا ببروميثيوس الذي سرق النار، وليس انتهاء بأولاد حارتنا لنجيب محفوظ. وباب المراهنة فيها ينفتح على الطموح لإضافة لبنة جديدة في حائط التساؤل عن مدى مسؤولية الإنسان عن مصيره المؤلم. وهي فضلاً عن ذلك كله تمور بمحاذير الارتطام بحواجز التأويل الديني والسياسي لمنطوقها الظاهر والمبطن، انطلاقًا من المقولة العتيدة: ليس بالإمكان أفضل مما هو كائن أو كان! لأن مجرّد التفكير بما كان يمكن أن يكون، يمثل المدخل النموذجي للمحنة، وجوديًا وسياسيًا.

 موجز الفردوس

يمكن تلخيص الصيغة التراجيدية الجديدة لإشكالية التحكّم والسيطرة كما تبدّت في “شرفة الفردوس” على النحو التالي: تجد الفتاة الجميلة والعزباء “حياة” نفسها مندفعة لاستئجار الشقة العليا في بناية “الفردوس”، ولدهشتها البالغة، فإن كل العقبات التي كان يمكن أن تحول دون استئجارها هذه الشقّة الفارهة تذلّل تلقائيًا. ورغم كل ما بدا من علامات التطيّر على محيّا صديقتها الدميمة “دنيا” التي تشاطرها العمل في مكتب لبيع تذاكر السّفر جوًّا، إلا أنها تصرّ على الوقوع في حب “أنس” أحد زبائن المكتب، ثم تتجه نيتهما للارتباط والزواج، وتصطحبه ذات يوم لمشاهدة شقتها المثالية، فيتصاعد شعورهما بالسعادة ويحتضنان بعضهما البعض ويتبادلان القبل، ليبدأ العدّ التصاعدي لتعاسة “حياة” وكل من يحاول الاقتراب منها أو تحاول هي الاقتراب منه، إذ لا يلبث أن يحضر بواب العمارة “إدريس” فيطردهما من الشّقة بناء على تعليمات مالكها “قاسم”! ومع أن “حياة” قبلت بالهبوط إلى شقة بائسة كما أن خطيبها “أنس” ظل معنيًا بها أكثر من اعتنائه برفاهية الشقة، إلا أن سلسلة من الرسائل المقتضبة وفحواها (لن تكوني لأحد غيري) تتدفق باتجاهها. ورغم نصائح صديقتها وزميلتها الوحيدة “دنيا” بضرورة الانصياع لمطلوب الرسائل والابتعاد عن “أنس” إلا أنها تصر على الاندفاع أكثر فأكثر، فتفقد حبيبها في حادثة سير وهو في طريق العودة من بلد مجاور، وتنتقل ملامحها الجميلة البهية لصديقتها فيما تنتقل ملامح صديقتها لها. وعبثًا تحاول مطاردة شبح “قاسم” لتكتشف دائمًا أنه هو من يطاردها ويحاصرها ويتحكًم بكل ما يمكن أن تفكر به أو تفعله، وإمعانًا منه في إذلالها فإنه يتخذ من دنيا عشيقة وجاسوسة وموصلة لرسائله إليها في آن واحد. وبعد أن تبلغ أقصى حالات الشقاء والحزن والهذيان، تتعرّف بـ”الدكتور” الذي يحبها رغم قبحها وتحبه رغم مخاوفها وكوابيسها ورغم تحذيرات دنيا القديمة الجديدة، لتكتشف أن “قاسم” ليس أقل تأزمًا وتورطًا وحزنًا وغضبًا منها، فهو ليس أسير وحدته الشاسعة فقط، بل صار أسير حبه لها بعد أن أصبح طرفًا في لعبة ابتكرها هو ثم غدا مشاركًا فيها، ولن يقبل بأقل من امتلاكها، فتزداد تمسكًا بالدكتور ويزداد الدكتور تشجيعًا لها على المضي في طريق التمرّد والاكتشاف معًا، وخاصة بعد أن راحت تقرأ مؤلّفات “قاسم” التي اشتراها لها الدكتور وأهداها إياها، لتنتهي الرواية بانتصارها على كوابيسها واستعادتها لملامحها الجميلة البهية، فيما تستعيد “دنيا” احتقارها لنفسها وملامحها المنفّرة.

 هكذا تكلّم إبراهيم نصر الله

عبر رواية رشيقة تقع في 170 صفحة من القطع المتوسط، يتقدّم إبراهيم نصر الله برؤيته الخاصة لمشكلة الوجود الإنساني الكبرى؛ ماذا ومتى وأين وكيف ولماذا … حدث كل ما حدث؟! فلم يدّخر وسعًا -على صعيد المضمون- لتوظيف المحمول الإنساني، دينيًا وأسطوريًا وفلسفيًا وأدبيًا وفنيًا، فنثره بخفّة متناهية، لم تتعال لتبلغ حدود التصريح المفضوح، ولم تخفت لتبلغ حدود الهمس المجروح! لكن الأجدر بالتنويه من هذه الاستدخالات الفكرية المموّهة بمهارة، تلك التقنيات والإزاحات السردية التي أحرزها إبراهيم نصر الله على نحو لافت.

لقد أثّث إبراهيم نصر الله روايته بشبكة دقيقة ومنظمة من العتبات والرموز والدّلالات، بدءًا من العنوان (شرفة الفردوس) الذي يحيل إلى ضرورة الإطلال على ما أضاعه الجنس البشري من سعادة مرّت كخطف البصر، مرورًا بما حمّله من دلالات أخلاقية على أسماء الشخصيات التي قدّت بعناية تامة: (قاسم)، (حياة، أنس)، (إدريس، دنيا)، (الدكتور). وإذا كان الاسم الأول هو من السطوع بما لا نحتاج معه إلى تأويل مستواه الدّلالي على الصعيد الميتافيزيقي، فإنه يتسع ليشمل أيضًا على الصعيد الاستاطيقي معنى ودلالة المؤلّف الذي يمسك بكل خيوط السرد في قبضته ولا يسمح لأي من شخصيات الرواية بالخروج عما أراده أو رسمه لها من أدوار وأقدار، كما يشمل على الصعيد الواقعي معنى ودلالة الديكتاتور الذي يتحكّم بكل شروط اللعبة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا. ويتوالى هذا السطوع على صعيد تأويل (حياة، أنس) بـ(حوّاء، آدم) ليصل درجة من الغموض المتعمّد في تأويل (إدريس، دنيا) ثم يعود للانبثاق مرة أخرى عبر الاسم / الصفة (الدكتور) الذي يتطابق دلاليًا مع (العلم) على الأرجح.

وحرصًا من إبراهيم نصر الله على توفير المعادل الموضوعي المطلوب فنيًا لـ(ما قبل الزمن) و(ما بعد الزمن)، فقد حرص على تقسيم روايته إلى قسمين: قسم امتد من الصفحة 5 حتى الصفحة 84 متدثّرًا بعنوان (المراودة)، وقسم امتد من الصفحة 85 حتى الصفحة 171 متدثّرًا بعنوان (اللعنة). فبدا (التذهين) في القسم الأول مبرّرًا لأنه يقارب حيّزًا تنعدم فيه أبعاد الزمان والمكان والإنسان لأنه سديم أزلي قديم. كما بدا (الترهين) في القسم الثاني متوقعًا ومطلوبًا لأنه يقارب واقعًا تجسّدت فيه الأبعاد الثلاثة وتشابكت، فلم يدّخر إبراهيم نصر الله وسعًا لترصيعه بأسماء المدن والأحياء والشوارع والمجمّعات التجارية والمطاعم والمقاهي ودور السينما والأغاني المشهورة والنكات الرائجة، لتكثيف البعد الواقعي من جهة، ولتمويه الأبعاد الميتافيزيقية التي تظاهرت في القسم الأول من جهة ثانية.

لقد وظف راوي (شرفة الفردوس) مخزونه السينمائي شكلاً ومضمونًا، وخاصة في القسم الثاني، ففعّل دور عين الكاميرا في تعميق الوصف والحوار المشترك ومناجاة الذات وتمازج الواقع بالحلم، كما وظف ما يشتمل عليه هذا المخزون من ظلال لإثارة التخويف والتعنيف والتشويق الماثلة في سينما الكابوس واللامعقول والغريب والتحقيق البوليسي، وقد حالفه الحظ في التعبير عن هذا التوظيف، شكلاً ومضمونًا، حينما استفاض في الحديث عن فيلم (أڤاتار) على لسان الدكتور المغرم بحياة، قبيل وأثناء وبعد مبادرته إلى دعوتها لحضور الفيلم. أقول حالفه الحظ في الحديث عن هذا الفيلم تحديدًا، لأنه يلتقي مع أطروحة الراوي من جهة كونه مقاربة للكيفية التي يمكن وفقها لذهنية التحكم والسيطرة أن تعطي لحاملها الحق في تحطيم الفردوس، ومن جهة كونه كرنفالاً حافلاً بالتداخل بين الواقع والخيال، والمعقول واللامعقول، والممكن والغريب. فضلاً عن كونه تجسيدًا للصراع الدامي بين الخير والشر والحب والكراهية والاستغلال والوئام.

وأما بخصوص الإزاحات السردية التي اضطلع الراوي بإحرازها في (شرفة الفردوس) فقد تمثلت أولاً في إسناد دور قيادة التمرد لحياة وليس لأنس! فالأنوثة سواء تظاهرت إيجابيًا عبر حياة أو سلبيًا عبر دنيا تضطلع بدور البطولة المطلقة في هذه الرواية. وأما الذكورة، بكل صورها واحتمالاتها، فما هي إلا هوامش جافة تحف ببحر الأنوثة الصاخب المتوثب. كما تمثلت ثانيًا في الإلحاح على تطعيم السرد الروائي بصور شعرية متواترة قوامها الضرب على وتر المفارقة الثاوية في رؤية الشيء ونقيضه على طريقة (وبضدّها تتعرّف الأشياء)! وكأن الراوي لا يمل من تذكيرنا بأن الحقيقة ليست أكثر من الأثر الناجم عن رؤية الأبيض والأسود في آن أو الإحساس بالفرق بين البرد والدفء..إلخ:

* (أوقفت السيارة، غير مصدِّقة عينيّ، لاحظت وجود سيارة بيضاء فارهة متوقفة أمام البناية. حاولت رؤية من في داخلها، لم أستطع. كان زجاجها الأسود يحجب ما وراءَه).

* (من قال إن الحبر أكثر حلكة من الثلج؟!).

* (وكم فاجأني أن الأوراق دائمًا تحترق، أما الحبر فلا).

* (أحسست أن الشيء الأكثر قدرة على بث الخوف من مخفر ممتلئ برجال الأمن هو المخفر الذي لا نرى فيه أحدًا منهم!).

* (ليسوا أقل من كارثة هؤلاء الذين يبكون أكثر منك يوم موت أحبائك!).

* (لا يمكن أن يكون هناك قتلة بالفطرة لو لم يكن هناك قتلى بالفطرة!).

* (أي مفارقة هذه؛ حين يتقدّم القاتل بلائحة توصيات إلى القتيل!).

* (الحلم الذي ظل يراودني هو أن أعثر يومًا على رجل أعمى، إلى أن أخبرتني دنيا ذات يوم: العُمْي، قد يرون بأصابعهم أكثر مما نرى بأعيننا!).

ومع أن إغراءات المقارنة بين (شرفة الفردوس) لإبراهيم نصر الله و(أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ، سواء على صعيد التشابه بين الجبلاوي وقاسم أو على صعيد التشابه بين بيت الجبلاوي وعمارة قاسم أو على صعيد التشابه بين (عرفة) وبين (الدكتور) -فكلاهما يمثل العلم ويرى فيه مستقبلاً وحلاً لآلام البشرية- فضلاً عن قابلية كل من الروايتين للتأويل الميتافيزيقي أو الفلسفي أو الواقعي من منظور تحليل خطاب السلطة، إلا أن الفيصل الحاسم بين الروايتين يتمثل في ذكورية (أولاد حارتنا) الفاقعة وأنوثة (شرفة الفردوس) التي يصعب أن تخطئها عين القارئ المدقق أو الناقد الحصيف. كما أن الراوي في (أولاد حارتنا) يتبنى رؤية الجبلاوي بوجه عام، فيما أن الراوي في (شرفة الفردوس) يتبنى الرؤية المضادة لقاسم، دون أن يبدي أي شكل من أشكال التعاطف معه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى