الأندلس لم تغب عن الأدب العربيّ المعاصر

الجسرة الثقافية الالكترونية

*جهاد فاضل

المصدر: الراية

 

لا تزال الأندلس على الرغم من مرور نيف وخمسمئة عام على رحيل العرب عنها تحتلّ حيزًا كبيرًا في الثقافة العربية والإسلامية. فالمؤلفون المهتمون بتفاعل الثقافة الأندلسية وتأثيرها في الأدبين العربي والإسلامي، قديمًا وحاضرًا، ما زالوا يتناولون أدب الأندلس باحثين فيه عن مذاق خاص لا يجدونه في أدب المشرق والمغرب، متوقفين طويلاً عند الموشح والزجل وشعر الطبيعة الأندلسي والنثر بما فيه من صنعة أسلوبية رفيعة.

 

ويقول الباحث الدكتور إبراهيم خليل في كتابه “ظلال وأصداء أندلسية في الأدب المعاصر/ مساهمة في الأدب المقارن” إن استدعاء النماذج الأندلسية في الأدب العربي الحديث أكثر من أن يحيط به باحث وأعمّ من أن يستقصيه دارس.

 

فقد كثر توظيف الرموز الأندلسية من أمكنة وشخوص في القصص والمسرح والنثر فضلاً عن الشعر.

 

فالمؤلفات المسرحية التي كُتبت حول «فتح الأندلس» أو «صقر قريش» أو «طارق بن زياد» أو «غادة إشبيليا» أو «سقوط غرناطة» وغيرها من نماذج ونصوص، كثيرة جدًا. وكتبت قصص وروايات كثيرة، وتجاوز الاهتمام بهذا الجانب الكتاب العرب إلى غيرهم. فكتب واشنطن أرفنج «قصص الحمراء» وكتب طارق علي (من باكستان) رواية أندلسية بعنوان «في ظلال الرمان» نسج فيها حكاية خيالية من عائلة عربية من غرناطة سماها بنو هديل مزج فيها بين المتخيل السردي والحقائق التي سجلتها لنا كتب التاريخ. وتناول الكاتب الأسباني انطونيو غالا شخصية أبي عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة في رواية سمّاها “المخطوط القرمزي” عمد فيها إلى صياغة شخصية جديدة غير مألوفة لأبي عبدالله الصغير في أيامه الأخيرة. وهناك كتاب عرب كُثُر كتبوا قصصًا مستوحاة من أجواء الأندلس. من ذلك رواية غرناطة لرضوى عاشور التي قامت قبل كتابة روايتها بزيارة إلى غرناطة وتعرفت إلى شوارعها وأحيائها ورياضها وما فيها من عيون وحدائق وقصور لا تزال تحتفظ بنضارتها إلى اليوم.

 

وفي الشعر العربي قلّ من لم ينظم من كبار الشعراء قصيدة أو أكثر في الأندلس. وأمير الشعراء أحمد شوقي شاهد كبير على هذا. فأندلسياته كثيرة سواء تلك التي عارض فيها بعض شعراء الأندلس كابن زيدون، أو تلك التي استدعى فيها شخصية «الداخل» تحت لافتة صقر قريش، وهو التي استهلها بقوله:

 

من لنضوٍ يتنزّى ألمًا

 

برّح الشوقُ به في الغلسِ

 

وفيها يعارض موشح ابن سهيل الإشبيلي. وهناك القصائد التي قالها في قصور غرناطة وقرطبة وإشبيلية وغيرها. ما شجع أحد الباحثين على دراسة أندلسياته في كتاب مستقل، وهو صالح الأشتر.

 

ولم يقتصر تمثل الشعراء لثقافة الأندلس ورموزها وصورها على جيل المتقدمين من شعراء العصر أمثال شوقي والجواهري، ولكنه تعدّى ذلك إلى جيل شعراء الحاضر.

 

فها هو عبدالوهاب البياتي ينظم قصيدة بعنوان «النور يأتي من غرناطة» وها هو أحمد عبد المعطي حجازي يخصص في ديوانه «مرثية للعمر الجميل» قصيدة يستوحي معانيها من قرطبة عاصمة الخلافة الأندلسية. وسعدي يوسف ينظم قصيدة بعنوان “غرناطة” تُعدّ من عيون قصائده. ولأدونيس قصيدتان مطولتان استوحى فيهما رموزًا أندلسية متعدّدة إحداهما بعنوان «ملوك الطوائف» وهي في ديوانه “هذا هو اسمي” وقصائد أخرى، والثانية بعنوان «تحوّلات الصقر»، وهي في ديوانه «كتاب التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار». والمراد بالصقر هنا هو عبدالرحمن الداخل. أما الشاعر محمد عفيفي مطر فقد كتب قصيدة بعنوان “بوابة طليطلة” وهي القصيدة الوحيدة التي تلفت فيها شاعر عربي إلى طليطلة عاصمة بني ذي النون!.

 

وتحضر الأندلس في شعر محمود درويش. نجد أول تواصل له في مجموعته الشعرية الثانية «أوراق الزيتون» ١٩٦٤. ويقتبس درويش من رموز لوركا التي لا تخلو من التأثير الأندلسي رمز «الشاعر» و«الزيتون» و«الغيتار» و«الحسناء» و«الأقمار» و«العيون السود» و«الغجر». وهذه المفردات تتكرر في قصائد لوركا التي تشير في الغالب إلى معاناته، وشعوره القاصي بالوحدة والحزن. وربما كان تأثر درويش بشعر لوركا هو الجسر الذي جاءت عبره الرموز الأندلسية لتظهر في شعره، وظهرت هذه الرموز على استحياء أولاً لم تلبث أن تعاظمت بعد الخروج من بيروت سنة ١٩٨٢. ويمثل أول ديوان من دواوينه الصادرة بعد هذا الخروج، أكثرها اعتمادًا على الرموز الأسبانية والأندلسية. وتلفت النظر في هذا الشأن قصيدته «أقبية، أندلسية، صحراء». في هذه القصيدة التي يعبّر فيها عن تجربة الخروج من بيروت والانطلاق عبر البحر في سفائن تحمله هو ورفاقه إلى المنفى الجديد في تونس، تذكر الشاعر مأساة الأندلس والخروج منها عبر البحر في سفن مؤجرة أقلت فلولهم المهزومة نحو منفاها وكان مضيق جبل طارق هو المعبر الوحيد الذي ترددت في فضائه صرخات المهجّرين. وهو بتذكره الأندلس، في هذا الموقف، لا يسترجع ما لها في النفس من ارتباطات جمالية، وإنما تذكرها وهي تعاني التمزق، وشبّه الوضع العربي الآن بوضع الأندلس عندما كانت تعاني من التفكك والانكسار:

 

كنا هنا ومن هنا ستهاجر العربُ

 

لقصيدة أخرى، وتغتربُ

 

قصب هياكلنا،

 

وعروشُنا قصب

 

في كل مئذنةٍ حاوٍ، ومغتصبُ

 

يدعو لأندلس

 

إن حوصرت حلبُ

 

وفي أكثر ديوانه «حصار لمدائح البحر» يذكر الأندلس، وإحدى القصائد تكاد تكون مقصورة على هذا المعنى، وهي قصيدة «أقبية، أندلسية، صحراء» التي تقوم على مثلث من رموز متضافرة المعاني. فالأقبية رمز بها الشاعر للمكان المرفوض، المكان الذي ينوي المتكلم في القصيدة الرحيل عنه بحثًا عن مكان آخر يمثل بالنسبة إليه المكان المشتهى والغاية من السفر. والصحراء تمثل الماضي القديم بكل ما فيه. ثم إن الشاعر أقام نصه الشعري هذا على استدعاء خفي لمشاعر عربي قديم هو امرؤ القيس. فقد أشار في أول القصيدة، في خطاب المتكلم لصاحبه إلى بكاء امرئ القيس ورحيله.

 

فلا تبكِ يا صاحبي حائطًا يتهاوى

 

وصدّق رحيلي القصير إلى قرطبة

 

ويضيف إلى ذلك إشارة أخرى تساند هذا التأويل وتؤيّده، يشير إلى الهدف من رحلة امرئ القيس واللحاق بقيصر الروم ليعينه على استعادة ملكه الضائع الذي جرده منه بنو أسد في صحراء نجد:

 

ويلتفّ حولي الطريق

 

كمشنقة من ندى

 

وأوقن يا صاحي أننا لاحقان بقيصر

 

فهذا المقطع يستدعي به الشاعر قول امرئ القيس:

 

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

 

وأدرك أنّا لاحقان بقيصرا

 

فقلت له: لا تبكِ عينُك إنما

 

نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا

 

وهذا الربط بين تجربة الشاعر وتجربة امرئ القيس بعد الرحيل من بيروت يرجح أن الصحراء في القصيدة ترمز إلى ذلك الماضي الضائع. وحلول الأقبية والزنازين محل تلك الصحراء يجعل من الأندلس التي اختارها الشاعر موقعًا وسطًا بين الأقبية والصحراء، تعبيرًا عن البديل المنتظر، والوطن المشتهى، لو كان بالإمكان الوصول إليه وبلوغه. ذلك أن محمود درويش مزج بين رمز الأندلس والمعنى. المستفاد من ذكر أمكنة أخرى كالهند والجليل وسمرقند وهي تتراءى في أحلام المتكلم ورؤاه تداعب الخيال، وتستحيل إلى ذكرى: فقرطبة ذكرى، والشام ذكرى، ودرب الحرير ذكرى، وسمرقند ذكرى، وهو يتذكر ذلك مثلما يتذكر امرأة:

 

أنا ألفُ عام من اللحظة العربية

 

أبني على الرمل ما تحمل الريُح

 

من غزوات،

 

ومن شهوات

 

وعطر من الهند

 

أذكر درب الحرير إلى الشام

 

أذكر مدرسة في ضواحي سمرقند

 

وامرأة تقطف التمر من كلماتي

 

وتسقط في النهر

 

هل يقتلون الخيول؟

 

وهذا البوح تعبير بالمفارقة من ضيق المتكلم من الصحراء وضيقه بالزمان الماضي وضيقه بالأشياء التي تتكسر في داخله هزائم متوالية وانكسارات، ولا يساعده رحيله مع ذلك على الوصول وتحقيق شيء مما يريده.

 

لماذا تريد الرحيل إلى قرطبة

 

– لأني لا أعرف الدرب

 

صحراء، صحراء

 

غنّ التشابه بين السؤال وبين السؤال الذي سيليه لعلّ انهيارًا سيحمي انهياري من الانهيار الأخير.

 

ولهذا تنعطف القصيدة باتجاه آخر.

 

وترد صورة «الغجر الذاهبين إلى الأندلس» متحدة بفكرة السقوط والإحباط والتمزّق:

 

مزّق شرايين قلبي القديم

 

بأغنية الغجر الذاهبين إلى الأندلس

 

وغّن افتراقي عن الرمل، والشعراء القدامى

 

وعن شجر لم يكن امرأة!

 

ويتضح تمامًا أن الأندلس في شعر محمود درويش تومئ إلى إيحاءات مختلفة عن قرطبة. فهي أقرب ما تكون إلى استعادة لرمز جمالي، رمز فيه الحب والدفء، وفيه الماضي بحلوه لا بمرّه، عكس ما يمكن أن توحي به كلمة قرطبة التي تعني الوطن الضائع. في قصيدة «يطير الحمام» التي تعيدنا إلى أجواء «أقبية، أندلسية، صحراء» نجد الأندلس مضافًا، والحب هو المضاف إليه. ونجد الأندلس يذكر في سياق الأشواق والحب والقمر:

 

رأيتُ على الجسر أندلس الحب، والحاسة السادسة

 

على دمعة بائسة

 

أعادت له قلبه

 

وقالت: يكلفني الحب ما لا أحب

 

يكلفني حبه.

 

ونام القمر

 

على خاتم ينكسر

 

وطار الحمام!

 

ويعقد الباحث فصلاً عن الشاعر الأندلسي فيديركو غارثيا لوركا الذي نهل من شعره شعراء عرب كثيرون. في شعر لوركا يكثر ذكر الموت ليس باعتباره موضوعًا وحسب، ولكن باعتباره استعارة تتجاوز وظيفتها الجمالية إلى التعبير عن غير المألوف. لذلك لا نعجب إذا رأينا عددًا من الشعراء العرب يتوجهون إلى لوركا باعتباره رمزًا للشاعر الذي يتوقع الموت ويسير نحو حتفه بقصيدة تقول الذي لا يُقال. وقد أشار بعضهم إلى الافتتان بما في شعره من إشارات إلى الموت. نجد محمود درويش يكتب قصيدة بعنوان “لوركا” يبدأها بإشارة إلى مسرحيته المأساوية عرس الدم مستبدلاً «الزهر» بالعرس، مؤكدا أن المناضلين يقتدون به إلى حد الاستشهاد:

 

عفو زهر الدم يا لوركا، وشمسي بين يديك

 

وصليب يرتدي نار قصيدة

 

أجمل الفرسان في الليل يحنّون إليك

 

بشهيد وشهيدة!

 

أما عبدالوهاب البياتي فتحدث في قصيدته «الموت في غرناطة» عن مقتل لوركا مباشرة. يستهل قصيدته بذكر عائشة، وهي شخصية أضفى عليها بعدًا خرافيًا أسطوريًا من خلال تكرارها في شعره. ومنها تنبثق صور البياتي الممهدة لثيمة الموت. فالمتكلم في القصيدة، وهو ليس الشاعر، يتحدث عن موته، عن جسده المسجى في التابوت، عن نهرين يغير كل منهما مجراه، دلالة على أن الأمر غير طبيعي، ثم يحترق النهران تاركين جرحًا على شجرة الرمان.

 

ولعلّ ذكر الشاعر لشجرة الرمان ذكر له مغزاه لأن غرناطة اشتهرت بالرمان وكلمة غرانادا، أي غرناطة، في الاسبانية معناها زهر الرمان وهو أيضًا من الرموز التي تتكرر في شعر لوركا. وفي هذا السياق يحاول البياتي الاقتراب من صوت شاعره الاسباني:

 

وصاح في غرناطة

 

معلم الصبيان

 

لوركا يموت، مات.

 

أعدمه الفاشيست في الليل على الفرات

 

ومزقوا جثته وسملوا العينين

 

لوركا بلا يدين

 

يبث نجواه إلى العنقاء

 

والنور والتراب والهواء.

 

«في ساحة اسبانية» لسعدي يوسف يبدو تأثره بشعر لوركا واضحًا يتجاوز ترديد اسمه، أو الإشارة إلى مصرعه المأساوي، إلى استخدام صوره ورموزه. فالقيثارة ورائحة الموسيقى والضحكات المكبوتة والبيت والريح والحانة والفارس والليمون تجعل سعدي يوسف أكثر من متأثر بشعره، فهو أقرب إلى الاقتباس:

 

الفارس الليلي من ينفض أردانه

 

ينفض عن دفء البراميل، تراب الصيف والعتمة

 

ويقطف الزيتون خلف السرج

 

والليمون

 

والنجمة

 

ترد صورة السرج والزيتون في إحدى قصائد لوركا. أما استخدام لفظة، الفارس الليلي والبستان والعازف والراقص والحرس الليلي فهي كلها علامات دالة على تشبع سعدي يوسف برموز لوركا وصوره:

 

سرّا وراء الليل والساحات والضوضاء

 

والحرس الأهلي والشحاذ والسائح والحذاء

 

يا أيها السرّ الذي أودعته أرصفة الميناء

 

قبعتي طارت مع الريح

 

ودارت زهرة في الماء.

 

والواقع أن التأثر بمقتل لوركا في الشعر العربي المعاصر لا يقتصر على بعض ما ذكرنا. فمن الشعراء الذين تأثروا بلوركا شهيدًا وفارسًا عاشقًا لقي مصرعه بسبب تعبيره عن رأيه وعن معارضته الشديدة للفاشيين:

 

الشعراء بدر شاكر السياب ومحمد القيسي ومحمد عفيفي مطر وأحمد عبدالمعطي حجازي وآخرون.

 

في كتاب الدكتور إبراهيم خليل فصول مختلفة تؤكد هذا الأثر الأندلسي في الأدب العربي المعاصر. ويسهم هذا الكتاب في الأدب المقارن حيث يجلو صفحات شتى نلمح هذه المساهمة عبر المقارنة والمقابلة بين النصوص. ولعلّ هذا الكتاب هو من بين قلة من الكتب صدرت في الآونة الأخيرة تنحو منحى المقارنة بين الآداب وتسهم فيه، وكل ذلك يجعل منه أحد الكتب الجيّدة الصادرة في وقتنا الراهن. فقد تبين على ضوئه كما لو أن لوركا شاعر عربي معاصر، وليس مجرد شاعر اسباني.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى