ذهبتُ إلى “هُنــا ” (4) / ابراهيم جابر ابراهيم
الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص-
ونحن نخرج من قاعة التشريفات، سألني صحفي لا أتذكر لأي صحيفة يعمل : لدي سؤال يحيرني ، لماذا دخلت حافياً ! . لاحقاً حاولت أن يكون هذا الشخص هو الوحيد في زيارتي الذي سأبذل كل جهدي كي أنساه !
في آخر الممرّ كان ثمة مكتب صغير مكتوب عليه : “المخابرات”. وجدتني بفضولٍ هائل أذهب هناك. رحبوا بي باستغراب، كانوا شبابا في العشرينات، وعلى وجوههم سؤال لم يسألوه: “لا أحد يأتي الى هنا برغبته، بل حتى لا أحد يحب أن يأتي”. فقلتُ لهم ضاحكاً لأنهي حالة الارتباك التي سادت بيننا : رأيتُ “مخابرات” كثيرة في حياتي في بلادٍ كثيرة، وكنتُ فقط أود أن أراكم يوماً ما !
طبيعة عملهم لم تنسجم مع إجابتي الرومانسية/ الحالمة/ أو الساذجة إن شئت؛ فرحبوا بي ، ولكن بحذر.
نزلنا درجات المركز وقال الأصدقاء سنمر سريعاً على “عقبة جبر”، لأن المخيم ينام باكراً.
وذهبنا الى ” هنا “.
الى المخيم الذي ولدتُ فيه قبل 48 سنة وغادرته ابن تسعة شهور تحت قصف الطائرات. كنتُ حافياً محمولاً على أكتاف عائلةٍ حافيةٍ تركض تحت شمس الأغوار وصليات الرصاص.
كان أبي جاء الى المخيم “لاجئاً” ، من “الرملة” مع عروسه بعد نكبة ال 1948، وعاش هنا، وأنجب أبناءه وبناته الكثيرين هنا، حتى ذلك الخروج المهين في نكسة حزيران 1967.
هنا إذاً في هذا المخيم، “عقبة جبر”، كان أبي شاباً . وكانت أمي امرأة صبيّةً تلد الأطفال. وكان لأبي مزرعة دجاج كبيرة. وهنا أمام بيتٍ ما جلس أشقائي وشقيقاتي تحت الشمس أو تبادلت أمي “صباح الخير” مع جاراتها. هنا في 30 سبتمبر 1949 ولدت العروسُ أمّي أول ابنائها، وهنا في 30 سبتمبر 1966 ولدت الحزينةُ آخر ابنائها.
وصلنا مكتب “لجنة خدمات المخيم”، حيث كان في استقبالي وأصدقائي “مدير المخيم”، وقفت السيارة، ونزلتُ بساقين لا تقويان على حملي، وحمل كل ذلك الأسى، كانت أمام المكتب حديقة صغيرة، وبضع شجرات.
جلستُ بسرعة على الأرض، كأنني أخاف أن يسحبها أحد من تحتي ثانيةً، وأخذتُ بيدي حفنة من أغلى تراب الأرض وأكلتُها.
جاء زياد بسرعة ” يا زلمة شو بتعمل ! هاد تراب يمكن فيه دود” ! . لكنَّه طيب يا زياد. طيّب. منذ خمسين سنة أشتاق اليه.
دخلنا مكتب المدير الذي قدم لي ” لمحة عن تاريخ المخيم”، فقاطعه الأصدقاء الذين أحسّوا بأنه ليس هذا ما أريد أن أسمعه، وقالوا له : يريد ان ” يندلَّ ” على بيتِه !
تبادلوا جميعاً الحديث في الاحتمالات الممكنة، ومَن الشخص المناسب من كبار السن الذي يمكن أن يعرف. ثم خرجنا لنمشي في المخيم. أصبح الدليل الآن الصديق اياد العالم وهو شاب فلسطيني لاجىء يملك فندقاً صغيراً في المخيم، ومن شباب “عقبة جبر” الوطنيين، أخذنا الى فندقه في أول المخيم، واكتشفنا أنه أعدّ لي، ولأصدقائي، عشاء من “المفتول” الفلسطيني.
كنتُ ما زلتُ ذاهلاً، أكلتُ بسرعة وارتباك، وجاؤوا لي بعبوة ماء بلاستيكية مغلفة، قلتُ للشاب : ” بدّي ميّة حنفية . من ميّة المخيم”.
واستعجلتهم أن نخرج للشارع.
مشينا قليلاً، كان الوقتُ ليلاً، والمخيم قد أقفل بيوته ومحالَّه، الا من سيارة وحيدة هنا، أو مطعم فلافل صغير هناك، وقال الأصدقاء وهم يحسّون بما في داخلي: سنعود غداً أو بعد غد في النهار، ونبحث عن بيتك. تعال الآن نروح الى رام الله.
وذهبنا الى مدينة السياسة والشعراء واللاجئين. تلك التي كانت ما زالت صاحية وفي سمائها آثار مطرٍ خفيف.
ووجدتُ نفسي في “مقهى رام الله” التي كنتُ أسمع عنها، في وسط المدينة. انفتح بابٌ صغير عن مقهى صغير مليء بدخان السجائر وقهقهات اليائسين السعيدين !