الحداثة ومضاداتها
الجسرة الثقافية الإلكترونية
المصدر: القدس العربي
ما كُتب عن الحداثة حتى الآن ومنذ تلك البواكير التي اقتربت من التبشير فيه من القواسم المشتركة ما يلفت النظر إلى مسألتين، أولاهما وقع الحافر على الحافر، كما سماه النّقاد العرب في الماضي، لكن بعد نقل المقولة من سياق الشعر إلى سياق آخر هو النقد، فثمة تنويعات لا يتعذّر الإمساك بها على نحو مباشر.
وكان الوتر واحدا، والسبب الآخر هو أن التماهي الحداثوي والنقل عن الآخر أتاح لهذا المُشترك أن يتعاظم تماما كما حدث لقصيدة النثر، التي أوشكت في العديد من الطروحات النقدية العربية أن تكون تنويعات على كتاب سوزان برنار، وحين راجعت ما استطعت من المطارحات العربية عن الحداثة استوقفني اعتراف بالغ الدلالة كتبه جوزيف صايغ في العدد 25 من مجلة «مواقف»، يقول: تقضي النزاهة حيال الذات والقارئ أن ألفت إلى أنني شخصيا سلفي كلاسيكي عمودي على صعيد الشعر، بحيث أحس مخلصا بأنني رجعي أكثر مما أنا تقدمي وأقرب إلى الايكولوجيين مني إلى الثوريين، مع هذا اختار مع رامبو الحداثة الملحة على حساب وفائي. هذا الاعتراف الذي لا تنقصه الشجاعة الأدبية والأخلاقية يطرح دفعة واحدة مضادات الحداثة، لكن على نحو يذكّرنا بما قاله علماء الأحياء مؤخرا في أمريكا عن تأقلم بعض الحشرات ومنها الذباب مع المبيد، فهي بمرور الوقت وتصاعد الجرعات أصبحت تسمن وتتغذّى من مبيداتها، لكن ما يموت هو الكائنات الأخرى التي تتغذى على هذه الحشرات، لأنها لم تتلقح بأي أمصال ضد الإصابة، وبالتالي الإبادة. والكاتب في هذا الاعتراف الشجاع يذكّرنا بما قاله ت. س. اليوت بالحرف الواحد، وهو أنه كاثوليكي في الدين، وكلاسيكي في الأدب وملكي في السياسة، لكن اليوت الذي اعترف بأنه ربيب هذه الأقانيم الثلاثة المضادة للحداثة كان صادما لجيله في عشرينيات القرن الماضي، خصوصا بعد نشر قصيدته «أغنية إلى العاشق بروفروك»، ومن ثم في منجزه الشعري الأعظم وهو الأرض اليباب، فمن نصدّق، ما يقوله الشاعر عن نفسه، أم ما يقوله نقّاده وفي مقدمتهم ماثيسين، الذي كان ماركسيا ويقف على الشاطئ المقابل لإليوت آيديولوجيا، لكنه تخطى الحاجز الآيديولوجي وكتب عن إليوت بنزاهة وموضوعية محررة من الرغائب.
اعتراف جوزيف صايع بأنه رجعي وكلاسيكي وعامودي لم يحُل ذلك دون إعجابه برامبو حتى لو اضطر، كما قال، أن يتخلى عن المكونات التي ساهمت في تشكيل وعيه وذائقته، فهل يحق لنا بعد عقود من اعتراف كهذا أن نعيد النظر في حداثة جرى تلفيقها من قراءات وترجمات وانطباعات سياحية، بحيث زاوجت على نحو سفاحي بين التقليدي والحديث وبين المتنبي ورامبو وبين قرية عربية تستخدم الأدوات البدائية في الزراعة ويتولى حلاّقها علاج مرضاها، وبين ضاحية للندن أو باريس مثلا.
نذكر أن موجة الشكوى من المدينة التي سادت في خمسينيات القرن الماضي وستينياته انطوت على مفارقة عجيبة تستحق مقاربة إنثروبولوجية أكثر منها نقدية، فالمدينة العربية يومئذ كانت في طور التكوين، وهي تشبه عنقودا من القرى، لكن تأثر الشعراء العرب خصوصا هؤلاء الذين وفدوا من الريف إلى المدينة بما كتبته أديث سيتويل وإليوت وآخرون عن المدينة الساحقة، أنساهم ما تعج به مدنهم الناشئة من عشوائية في المعمار والتشكّل الديموغرافي وفي ضواحي بعض تلك المدن كان المرء يشاهد بغالا وأبقارا تقوم بدورها في غياب الآلة، سواء في المجال الزراعي أو بعض الصناعات المحلية الخفيفة.
تلك هي الحداثة المقروءة، أو بمعنى أدق المترجمة وليس الأصيلة، لكن معظم الدراسات النقدية عن الحداثة أغفلت جوانب معرفية من خارج الأدب ومعجمه المتداول وامبراطورية المجازات والمترادفات التي أتاحت حتى للهواة قول كل شيء.
إذ نادرا ما كُتب عن حداثة الفلسفة مثلا، أو عن علاقة أنماط الإنتاج السائدة في الوطن العربي بإيقاعات التحول وما يطرأ على الذائقة العامة من تغيير، بينما ظهر في الثقافات الأخرى كتّاب ونقّاد وشعراء أيضا ربطوا عضويا بين تطور أشكال الكتابة والعمل، خصوصا بعد أن تسببت الآلة والمنجز الصناعي في نشوء ظاهرة الاغتراب، بحيث لم يعد الصانع ذا علاقة حميمة بما يصنع، لأن ما يراه لا يعرفه عن السلعة، وهو جزء صغير منها لا يحمل أي ملمح من هويتها، حتى علماء الإنثربولوجيا من طراز بيير كلاستر توصلوا إلى نتائج مثيرة في دراساتهم الميدانية لشعوب بدائية، وأوضحوا بالأمثلة كيف يغترب الفرد عن سياقه الاجتماعي، ثم يبدأ في تكريس عزلته مما يفرض عليه إيقاعات غير مألوفة.
الحداثة ليست وصفة كونية، بل لكل لغة وثقافة حداثتها وهذا ما أصرّ عليه بإلحاح هنري لوفيفر، حيث قال إنه لا يستطيع أن يبدي رأيه عن الحداثات كلها فاقتصر على الحداثة في فرنسا.
وكذلك الناقد روزنتال في محاولة التركيز على دور بودلير في الحداثة، فقد ذهب إلى رصد تفاصيل لا تخطر ببال أحد ممن يتصورون أن الحداثة ضربا من الفنتازيا العصية على التفكيك، فأعاد روزنتال حساسية بودلير الحديثة إلى مصابيح الغاز التي كانت تعلّق على أعمدة في الشوارع ومن ثم بروز ظاهرة جديدة هي وقوف البغايا تحتها بحيث أصبحت أعمدة النور عناوين جديدة.
* * *
حين كتب ناصيف نصّار عن حداثة الفلسفة قال إنها بخلاف الشعر العربي ليست ذات تراث طويل ومتواصل، بحيث هناك محطات يمكن التوقف عندها، لهذا على الفلسفة أن تظل في حالة حرب مستمرة للدفاع عن شرعيتها، ويستشهد نصّار بنص للفارابي نقتطف منه ما يقوله هذه الفيلسوف عن الحكيمين أفلاطون وأرسطو، فهما منشئان مبدعان للفلسفة، لأوائلها وأصولها، وهما متممان لأواخرها وفروعها، وما يصدر عنهما هو الأصل المعتمد لخلوه من الشوائب والكدر. ويعلّق نصار قائلا، إنه لا يستطيع الكتابة الآن في موضوع شروط الحداثة الفلسفية في العالم العربي، لأن هناك أشياء كثيرة لا يمكن قولها في الظروف الراهنة، فهل بلغ التربص بمن يجتهدون هذا الحدّ من الفوبيا، أن سؤال الحداثة في العالم العربي تعرّض إلى تشطير وخصخصة أكاديمية جعلت من الإجابات عليه مجرد مراوغات أو مزاوجات قسرية بين ما قبل الحداثة وما بعدها، وقد تنامت مضادات الحداثة بوصفها رؤية أولا بحيث أجهضت ما كان يتململ في الرحم.
أما تلك الحداثة التي تغذّت من مضاداتها ومبيداتها فهي نموذج للتأقلم الذي كلّفها أهم وأثرى ما كانت تعد به.
كاتب أردني
خيري منصور