عسـقلان المحتلة .. الماضي العربي في مواجهة الحاضر المعادي
الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص –
* ثورة حوامدة
رحلة في الصباح الباكر ، تشعل بداخلي الكثير من التساؤلات ، منها ما هو يختص بالوضع الراهن ، ومنها ما يفتت العاطفة المرصوفة على طرقات الإنتظار في العودة للممتلكات التي أخذت عنوة عنا عام 1948 ، زيارتي الأولى لعسقلان المحتلة ، أجهضت من رحم معاناتي أفكارا حملتها وآمنت بها كثيرا ومطولا ، ” لا شي عربيٌ هنا ” قلتها وأنا مقبلة بالحافلة التي نقلتنا من المعبر الى المدينة ، المباني الكثيرة والممتدة على طول النظر ، يعلوها القرميد الأحمر ، ويعطيها شكلا أوروبيا مختلفا ، تحيطها الأشجار المزروعة بكثرة في الشوارع والحدائق المنزلية ، والبحر يعانق البحر من الجهة المقابلة ، ريح تهب على صحوة المبادئ النائمة ، والتي تناقلتها بالوراثة من والديّ في حب هذه الأرض ، والواقع الذي جعلني أقتنع بما كنت فيه وما إستمريت عليه لهذا اليوم .
جولة في عسقلان القديمة :
الطفل الذي غادر عسقلان بعد النكبة لو تقرر له العودة الفعلية للمكان ، لن يجد منزله الذي يعتقد لوهلة من الزمن أنه ينتظره ، أو بقايا عبق تراب الأرض الذي كان يتنفسه صباحا ومساءا على جبين والده , حين كان يقطر من بين مساماته عبارة لا تنسى ولا يمكن أن تحتضر ” فلسطين على كامل التراب الفلسطيني ” , لن يجد ما تركه ، ولن يجد المدرسة القديمة التي كان يتلقى تعليمه البسيط فيها ، ولن يرى صورة والدته التي تغسل الملابس على ماء البحر المتوسط الألم في قلبه ، وقلب كل من رحل قسرا وعاش عن الوطن هجرا لا يحتمل .
الأسواق :
جولة عسقلان كانت القاضية بالنسبة لي ، مشيت سيرا على الأقدام في الشوارع ، كانت تعج بالملابس الأوروبية ، والصرعات العالمية ، حملت لها الكثير من الحب وقابلت هناك الكثير من اللاحب ، اللاوجود العربي ، المنازل بالكامل كانت للسكان اليهود ، والمركبات التي زينت الشارع جميعها بلا إستثناء تحمل على مقدمتها او مؤخرتها العلم الإسرائيلي ، حتى المنازل في كل مكان على سور حديقتها وجدرانها الخارجية العلم الأزرق يرفرف أمام ذل البحر لمن هجروا ورحلوا .
المقبرة والمسجد :
وصلت الرحلة بنا إلى المقبرة الإسلامية التي تقع في عسقلان القديمة ، على مقربة من المسجد الوحيد الذي تقف مئذنته أمام تعدد الأجناس وتوحد الجنسية ، والغريب أنه تحول من مسجد إسلامي لعدم وجوده المسملين إلى متحف يضم العديد من اللوحات المرسومة ، وبعض التماثيل الحجرية والبرونزية التي يعود تاريخ صناعتها للعهد البرونزي .
بعد أن دخلت العصابات الإجرامية إلى عسقلان قبل إعلان دولة إسرائيل ، وقامت بتصفية الفلسطينيين هناك ، لم يبقى منهم ولا فلسطيني ، تم هدم المدينة بالكامل على أنقاض السور المقابل للبحر ، ذلك السور الذي كان يهزم موجات الغزو القادمة من البحر أيام المماليك ، وتم بعدها على حين غرة ، تأسيس مدينة يهودية جديدة بطراز أوروبي تحت مسمى ” أشكلون ” .
البحر والمنارة :
البحر حزين ، بارد رغم حر الجو العام للمدينة ، يخلو من دفء المشاعر , يعج بالمتحابين في نهاية الإسبوع ، وتنهمر القبل على الشاطئ كأنها بحر من الحب ، رغم وهجها فهي بلا روح ، الشاطئ على إمتداد النظر ممتلىء باليهود ، على أجسادهم مستحضرات التجميل للحماية من الشمس ، هدفهم من ذلك الحصول على البشرة البروزنية ، لمست هذا في جميع المتواجدين أمامي ، تعرضهم لساعات طويلة للشمس ، وبالرغم من تعرضنا لسنوات طويلة للإحتلال القسري رغما عنا ، لكننا وبالرغم من ذلك لم نتغير ، ما زلنا نمسك ونتمسك بثوابتنا الوطنية وما زالت القضية الفلسطينية تشاركنا نبض القلب وحنينه .
كوفية :
كوفية وحيدة عانقت البحر وقت أن كان لا شيء عربي ، لا شيء عربي ، لا شيء عربي ، مطرزة أهداب عينيها بالأحمر من أطرافها ، تتزين زوايا نوافذها كقناديل بحرية ، متدلية على عروش جنة خاوية ، وخالية ، أحضرتها صديقتي لإلتقاط بعض الصور بها على الشاطئ القريب .
صَدفٌ وأسماء :
لأصدقائي الذين لم يزوروا البلاد المحتلة ولا مرة ، ولم تكتب لهم فرصة تشفي غل فراق دام لسنوات طويلة البعد والأمد ، كانوا حاضرين بأسمائهم هنا ، على شاطئ الوعي القريب مني .
بالصَدف ، كتبت لهم أسمائهم لتزين شاطئء الرمل القريب ، كتبت لهم الأسماء المهجورة عن خارطة الوطن والقضية ، لتزداد لديهم جرعات الإحساس بالعودة ، عانقوا الصور التي أرسلتها لهم من خلال الفيسبوك ، كأن الإسرائيلين رحلوا من هنا بغمضة عين ، كانت بمثابة عودة صُوَريّة ، لها توابعها النفسية الإيجابية والسلبية .
كيف يكون إذن للبحر ماء واحد ينظر له من طرفين مختلفين ، بنمظور مختلف ، وقضية مختلفة ؟ .
* كاتبة من فلسطين