الجسرة تنفرد بنشر رواية صابرين فرعون “رواية قلقة في حقائب سفر” (2)
الجسرة الثقافية الإلكترونية – خاص-
-2-
حارسة الوجع , طفلة الحقول
— يخنقني الوقت وذاكرتي المثقوبة .. تطل منها تلك الطفولة التي انتعلت أحذيةً ملغومةً بالتاريخ , بأصالة الكنعانيات وأثواب الفرح المصبوغة بدمائنا وأرواحنا .. تلك اللحظات تئن كي تصير خارج ذاكرتي وما أكاد افعل حتى يلوكني الحنق ..مسافرةٌ وقلبي كالنار في الهشيم فهذا الجحيم لم ينتهِ بعد.. يخيفني أن أتركها ترقد في قاع البئر وما تحققت العدالة لاستبدلها بشريط من التناغم الروحي والموسيقى ..
قفزت من سريرها كطفلةٍ تشد الخطى والرحال نحو نافذتها , سبقتها أناشيد المطر تدفع الإنارة في الشارع لنزع جمود النظرة واستبدالها بمشهدٍ رومانسي يحرف مسار العاصفة تلك التي ينتظرها آلاف البشر وهي تبحث في ملامحها عما يمسح البقع الحمراء التي عطبت ذاكرة البياض لأرواحٍ صديقة . كانت الطفلة داخلها تركض , تقطع بحاراً ومحيطات , أفرغت خطوط الطول من ركن الوقت ودوائر العرض , جمدت كل طقوس البرد , ابتلعت كتب التاريخ تلك الأصول التي تقرأ فيها من :كنعانيين وفلست وفينيقيين وأموريين , تدحرجت داخل الحكاية ونزفت داخل نص “تحيةً لك يا علم بلادي” , امتقعت بكل لونٍ في العلم فاغتسلت من كل آثام الرسالة التي فضحت قاتليها , كم مؤامرةً بعد على نعناع البلاد أن يضمها ويحتويها ؟!
أكاد أختنق لولا كلماتك يا جدتي : “دمك .. سمّك”
قلبي على طفل قلبي اليوم يا جدة لو أنك تعلمين , و روحي معلقةٌ في ” الحاكورة ” مع الطفلة ذات الحذاء الأحمر الذي أهديته لها وهي ابنة الثلاثة أعوام , ذلك الذي دخلت به في منامها ل “يالو” تركض عند القبة حول النبع , ترقص في البيارة بين أشجار التين والرمان واللوز والصبر , تشدها رائحة الطابون بالقرب من جامع يالو , مهلاً في السلسلة “بقجة” ماذا لو فتحتها ؟! لن تأكلني “الحية ام راسين” ، الأفضل ألا أفعل ، ماذا لو استيقظت بعدها وصرت بكماء ؟! لا أريد أن أصحو , أريد أن أتناول من “خبز الطابون” الذي تصنعينه فقط , الرائحة شهية جداً ..
جدي أحضر مؤونة الأسبوع من الدجاج في حالة لم يعد للبيت مع السفريات الموكلة له .. سأذهب كي أقبله وأحصل على قرش , وعدني في العيد سيعطيني “شلن ” .. متى سيأتي العيد يا جدة ؟! قال جدي أنه سيأخذني ل “بير حيبة وبير الطويل ” .. وسيعاقب خالي لأنه ضربني حينما كنتُ ألعب بالقرب من البئر , أخبرني أنه سيرعى البقرتين ولن يذهب معنا .. رائحة الطابون كما الرائحة في “بيت سيرا” , في الصباح الباكر توقظ كل الحواس إيذاناً بنهار كله نشاط , وأطفال المدارس يسرعون كي لا يتأخروا , وتلك العجوز من اللد لا تزال تحمل المفتاح برقبتها تنتظر زوجها الذي رحل منذ أربعين عاماً للالتحاق بالجيش ..
البيت .. تباً .. أين اختفى البيت .. أينك يا جدي ؟
للمرة الألف : ما نهاية حكاية الغولة يا جدة ؟! لن تذهبي قبل أن تخبريني .. ما الذي يُحاك في العتمة ؟! أيها القدر ماذا تُخبئ في هذا الدرب المغروس بالشوك ؟! ما كانت الأرض جاحدةً بنعمة المطر أو صهيل الكنعانيين حماة الأرض ..
قد صار القلب بحجم “يالو” , كلما تقوقعت في عزلتي تأملتها ويعتصرني الحنق
كيف لي بعباءة “هاري بوتر” لأتخطى المعابر والأسلاك الكهربائية وأبحث عن أثركم !!
ما عدت الطفلة التي تختبئ في حضن الجدة تبسمل على رأسها وتحكي لها القصص .. تلك الطفلة كبرت , وصارت ترى الحكايات وتعايشها كل لحظة , الحكايات حقيقية , وكذلك الغولة ..
فتحتُ “البقجة” وسأنتظر المطر .. ذاكرة الأرض بوصلة قلوبنا.. من كان ليخبرني أن قدري أن أتزوج من نذر روحه للأرض , وكان عشقه لها أقوى من كل رابط .. كم مرةٍ تشاجرنا لأنه كان يقوم بواجبها وكأنها هي الزوجة وأنا … ! كنت أغار وجداً وأتألم بصمت , هذا قدري وما كان عليّ غير القبول به أو الموت حسرة وهو الذي اختارني من بين كل نساء العالم يغفو على ساعديّ وكله ثقة أني لست جوزفين التي أطاحت برأس نابليون ..
كم ليلةٍ غفوت ووسادتي تتوسلني ألا أغرق وأُغرقها ببحرٍ من دموعٍ مالحة , انتظر عودته سالماً لقلبي , لحضني , لروحي التي ينخرها سوس الشك أن تسرقه حرباء متلونة ..
– ثقيلٌ وزن الهواء , يخدش أمنيةً التصقت بحروف النداء وتبعثرت بين الأفعال الناقصة و حال الجسد الذي تعلم الإخلاص .. معذرةً يا أمير الشعراء :
قم “للحب” وفه التبجيلا *** كاد “العاشق” أن يكون “شهيدا
الغرق في هوى القلب حياةٌ مؤجلة غير محددة الأمد ..
كيف ليدٍ غير تلك التي ناغت شفاه النبض أن تمسد على جسدٍ بكل خليةٍ فيه يتنفس ذاك الرذم الذي يتحدى الأرض أن تكمل دورتها ولا تفقد اتزانها خارج إطار الزمان والمكان ؟!
قناطير اللغة تعجز أمام وفاء زوجةٍ فور استشهاد زوجها تم اقتيادها للتحقيق وحرمانها من رؤيته لآخر مرة .. أطلقتُ زغرودة وفاءٍ للحب , للعشير , و للأرض التي غرستها أمهاتنا في شرايين القلب .. ألا يحق لي وداع زوجي بما يليق بما خلفه من كرامةٍ لي ولأبنائي ؟!
ألا يحق لي أن أهمس في أذن الرياح أمنيةً أخيرة .. ألا يحق لي أن تكون كل بيوت الوطن داري وكل شبرٍ في هذه الأرض خطو أولادي ؟! ألا يحق لهم أن ينهلوا من كل ذرة تراب حباً كما فعل والدهم ؟!
إن كان ذنبي أني عاشقة ، فالفلسطيني مذنب بعشق أم ٍ ترخص لها الأرواح ..
– لا صوت للمجازر , لا صفير ولا عويل للريح التي تنشب أظافرها , تكتب على ظهر الزمن أوجاعنا , تنكرنا وننكر أنفاسها المحملة بكل الخراب ..
هل ماتت الحقيقة أم تلونت ؟!
” أخدوا الريح وأخدوا الليل
أخدوا نهاري وأخدوني
وأخدوا قلبي وتركوا الويل
سرقوا النور من عيوني “