الناقد العراقي محمد صابر عبيد في منفاه التركي: حين يكون البيت ضعيفا تحوّله العاصفة إلى أشلاء

الجسرة الثقافية الالكترونية

*حواس محمود

 

بعد رحلة مضنية وشاقة ولكن عاشقة للكلمة والإبداع والكتابة، استطاع الناقد العراقي محمد صابر عبيد أن يشق طريقه إلى عالمي الشعر والنقد، لكنه كان يبحث عن الممارسة النقدية سلوكا قرائيا ونقدا تطبيقيا، فكان له ذلك، هذا الناقد الذي ظل مرتبطا بمدينته الموصل «الحدباء»، إلا أن القدر والزمن الرمادي كان غادرا وكان ظالما وعنيفا فكان نصيبه الهجرة مع أطفاله، تاركا ذاكرته الحميمة وروحه المبثوثة في ثنايا المكان في جنبات منزله وعلى أرصفة مدينته وشوارعها المتروكة للعاصفة الهوجاء، بانتظار معجزة تنقذ الأرواح الممزقة بين غربتي المكان الحميم والمكان المضيف .

حول الشرارة الأولى وعشقه الأول للكتابة يقول :المسافة بيني وبين الشرارة الأولى تبدو لي الآن بعيدة جداً على نحو غامض وملتبس ومشوّش، أو في الأقل لم أعدْ أنظر إليها بالأهمية التي كانت تستهويني وتغريني سابقاً، ربما أصبح ما يهمّني الآن هو كيف أعيش، وما هي الممكنات الفعّالة على صعيد الإنتاج، وهي تجعلني أكثر حيوية وسعادة وتوافقاً مع ذاتي ومع المحيط والماحول، لم يعدْ الماضي بكلّ زخمه التاريخيّ والمرجعيّ (الوهميّ أحياناً) يثير اهتمامي، حيث أثبتَ أنّه لا قيمة له في عالم يتقدّم ويتطوّر باللحظات وليس بالساعات والأيام، لذا فإنّ ميولي الأدبية والكتابية أصبحت اليوم في وضع حرج للغاية، ولاسيما حين أتلمّس عجزي عن تقديم شيء ممكن لما أعتقد أنه يستحق ذلك، كانت الكتابة إلى وقت قريب لعبتي المفضلة، لكنني حين تلقيت ضغط الحياة على نحو كاد أن يهشّم روحي فقدتُ الإيمان بها، ويمكنني القول إن الشرارة الأولى انطفأت بقسوة، وعشق الكتابة الأول أضاع محلّه من الإعراب في فضائي ولم يعد صالحاً للاستذكار.

وعن حميمية المكان وارتباطه به من خلال وصفه لحالته – في أحد مقالاته – بأنه «بيتوتي» يتحدث عبيد عن مدينة الموصل: أعترف بأنني في مقالي «ليلة سقوط الموصل» كنت منفعلاً، وأنا سعيد طبعاً بهذا الانفعال، إذ لولاه لما كان المقال بهذه الحرارة والتنوير السرديّ المفعم بالأسى والخوف والألم، أنا الآن على مبعدة ثلاثة أشهر من الموصل، المكان الذي فيه بيتي ومكتبتي وأشيائي الحميمة كلّها، لاجئاً هنا في مدينة بعيدة تقع أقصى شرق تركيا اسمها (وان)، ومعي أسرتي في مكان مختلف، أستعين فيها بما تبقّى من قدرتي على المحبة والبسالة صحبة صديقين وانيّين رائعين هما محمد شيرين وعبد الهادي تيمورتاش كي نعيش، أصارع ذاكرتي بوحشية حتى لا أعود إلى مكاني الأثير (بيتي)، وحتى أتحرّك في مكان ضيّق داخل شقّة من غرفة وصالة هي أصغر كثيراً من مكتبي هناك، وحيث كان لكلّ ابن من أبنائي الثلاثة وابنتي الاثنتين غرفة خاصة مجهّزة بما يحتاجونه، يتكدّسون الآن في مكان مشترك يستحيل عليه احتواءنا لولا الاضطرار والمحبة، هنا بالضبط أكاد أقول فقدت إحساسي بالمكان لأنني بلا بيت الآن، وربما أشعر بأنني مشرّد بالمعنى «البيتوتي» النفسيّ للمكان.

وعن التنوع النقدي في نتاجه النقدي يقول : طالما أحسست بأنّ لدي طاقة هائلة على الحبّ والكتابة والقراءة والتفنن في اختراق لذائذ الحياة ومباهجها، لا أقنع بسهولة، ولا أكتفي، ولا أقتصد، ولا أتحسّر، أتوغل في الأشياء بقوّة وجنون وبلاغة ولا أحسب حساباً للنتائج، حتى اختلط عندي مفهوم الجرأة بالحمق، والخطاب الأدبيّ شعراً وسرداً هو عالم متكامل عندي، لأنّ التداخل الأجناسيّ جعل الشعر يحتشد بالسرد، والسرد (قصةً وروايةً وسيرةً ورسالةً) تكتظّ بحساسية شعرية يقتضيها أحياناً منهج الكتابة السردية وفلسفتها، فضلاً عن تجلّي الدراما والتشكيل وآليّات الأداء السينمائي وأدواته في الشعر والسرد، وانتقال آليات الشعر والسرد إليها، كلّ ذلك دفعني إلى توسيع ممارستي النقدية وتنشيطها، وتفعيل ممكناتها كي تشمل كلّ النصوص التي تثيرني من هذه الخطابات، وقد وفّر لي ذلك متعة كبيرة حين اكتشف الشاعر في الروائيّ، والسارد في الشاعر، والرسّام في القصيدة، والسينمائيّ في الرواية، وهكذا، وعلى الرغم من أنني متخصّص على الصعيد الأكاديميّ في نقد الشعر، غير أنّ دراساتي في نقد السرد لا تقلّ شأناً في قيمتها النقدية والجمالية والثقافية عن دراساتي في نقد الشعر، بشهادة الكثير ممن رصدوها وعالجوها نقديا.

ويتحدث بألم عميق عن المثقف العربي وغياب أو تغييب دوره في المرحلة العربية الراهنة والحساسة جدا: المثقف العربيّ رهينة السلطان، هو مثقف مهزوم أمام نفسه وأمام العالم، والمثقف الصامت هو مثقف مهزوم أمام نفسه وأمام العالم، والمثقف المنفي أو المسجون أو المشرّد هو ضحية لا حول له ولا قوّة، العصر هو عصر الآلة والتقانة والاقتصاد والمادة وليس عصر الثقافة والروح والذوق والكتاب، الثقافة في العالم كله تتراجع على نحو أو آخر، لكنها في المجتمعات العربية تتحوّل إلى نقمة وتهمة وجريمة، ما معنى ثقافتي وقد أنفقت عليها ثلاثين عاماً من عمري، وثلاثين كتاباً من عقلي وقلبي وروحي ورؤيتي، ومئات المقالات في عشرات الصحف والمجلات من الشام لبغدان ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان، وأنا مشرّد مع أسرتي تاركاً بيتي وكتبي وأزهاري ولوحاتي والقلّة الهائلة من أصدقائي، وكل ما هو جميل ونادر في حياتي تحت تصرّف المجهول، ما قيمة الجوائز الأدبية التي حصلت عليها، والطلبة الذين تتلمذوا على يديّ، والسمعة الأدبية والأكاديمية التي حصلت عليها في أكثر من ثلاثة عقود، وأنا لا أملك تحت يدي كتاباً واحداً، أتحسسه كما كان يحلو لي حين أعيش ساعات طوالا في مكتبتي المنزلية محاطاً بآلاف الكتب، كما أتحسس بأبوة طاغية رأس أحد أولادي، لا يوجد شيء يمكن أن نصطلح عليه بـ»مثقف عربي»، ولا أعرف مصطلحاً يمكن أن أطلقه على أولئك الذين يُعتقَد أنهم مثقفون عرب؟

وعن الأزمة العربية الراهنة، خاصة في سوريا والعراق يرى صابر عبيد: المجتمعات العربية عموماً تعيش في أزمات دائمة ومتنوعة ومتوالدة ومتناسلة لا تنتهي، لا يوجد مجتمع عربي بلا أزمة، أعتقد أن التخلّف والأمية وفقدان الحقوق المدنية للمواطن وضياع مبدأ المواطنة، هي أهم أسباب الاستبداد والتطرف والتدخلات الخارجية التي تعصف بنا بكل هذه القسوة والرعونة، العاصفة ممتعة حين يكون البيت قوياً كما يقول باشلار، لكنه حين يكون ضعيفاً تدمره العاصفة وتحوله إلى أشلاء، ونحن العرب بيتنا ضعيف وواه دائماً ويمكن أن تهزّه ريح بسيطة فكيف بالعاصفة، ثمة مثل معروف يقول: (المال التائه يعلم الناس على السرقة)، ونحن العرب كل شيء عندنا تائه ومباح وبلا حرّاس، فكيف يمكن أن نقنع اللصوص المحترفين بنقل نشاطهم إلى مكان آخر، وأموالنا التائهة في متناولهم بلا تعب ولا شقاء ولا حرفنة لصوصية عالية؟ صحيح أننا في سوريا والعراق وقبلنا فلسطين نعاني الآن أكثر من غيرنا من أبناء العروبة الميامين، غير أنه لن يكون ثمة بلد عربي أو فرد عربي بمنجى من هذه العاصفة، العقول العربية الجبارة يحتكرها الغرب لأنها تتعرض للاستهانة في بلدانها، والثروات العربية يأخذها الغرب ببساطة ويسر لأننا لا نعرف كيف ننتجها ونسوّقها ونبني حضارتنا بعائداتها، نحن نعيش في ظلمة داكنة، وبدائية ورعوية بدوية مهيمنة، وانكفاء ويأس، داخل صحراء كبيرة بلا ماء ولا ثقافة ولا موقف ولا عدل ولا تسامح ولا مساواة ولا أمل، فأين يمكن أن تعثر الأزمات على مكان صالح لنموها وحياتها مثل هذه الأرض الخصبة وهي تعطي الغريب دائما ولا تأخذ منه، مثلما تأخذ من ابنها ولا تعطيه؟

وعن إقامته الجديدة الاضطرارية وانطباعاته عن مدينة «وان» التركية يقول :نعم إقامتي اضطرارية هنا، مدينة (وان) مدينة صغيرة تتحرّك في كل شيء على حجمها من دون ادعاءات ومزاعم ومبالغات كما أشعر بها، أحاول أن أتحسسها كلما وجدت نفسي قادراً على تفعيل إحساسي شبه المفقود بالأشياء، مدينة مختصرة لا تتعبك في البحث عمّا تريد، بحيرة وان الواسعة تعطيها معنى كبيرا عندي، طالما أنني أحبّ الطبيعة الواسعة والعميقة والمفتوحة على نحو يجعلني أتنفّس براحة وطمأنينة، والشوارع فيها متصالحة كما أراها وأليفة ومكتفية بذاتها، المقاهي الشعبية المرتجلة على الرصيف ميزة نوعية مدهشة لهذه المدينة، ربما أكثر من أي شيء آخر يلفت انتباهي، لم أرَ مدينة بهذا الزخم المقهاويّ الباذخ مطلقاً، ولعلّ الطفل المتسكّع الماثل أبداً في أعماقي يهفو بسعادة إلى حساسية الحراك الإنساني العفوي الخلاّب في أرصفة جميلة تحتشد بكراس صغيرة، وتنتشر بغزارة محببة أينما ذهبت، الناس بسطاء اختلطت عنده البساطة الكردية بالبراءة والعفوية التركية، وتجلّت في وجوه سمحة لا تُشعرُكَ بالغُربة، لكنني مع كل ذلك أبقى محكوماً بالشرود والتشيؤ والبلادة، أخرج، أمشي، أتسكع، أنظر إلى الناس، لكنني مسجون في أعماقي، ولا شيء بوسعه بعث نفحة من السعادة في روحي، روحي ملبّدة بغيوم ثقيلة لا لون محدداً لها، رغبتي تتراجع وربما تندحر، إلى متى يمكنني أن أقاوم جيوش الغبار وهي تدكّ مزاجي بعنف.. لا أدري؟

 

 

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى