مقاربة العنوان في قصيدة الشعر
الجسرة الثقافية الالكترونية
*محمد عبد الفتاح
يكتسي العنوان أهمية بالغة مع انتشار الطباعة ودخول المجتمعات مرحلة الحداثة الثقافية، وازدادت هذه الأهمية مع انتشار مجموعة من الأبحاث والدراسات التي حاولت أن تقارب إشكالية العنوان، وما تثيره على المستوى النظري والإجرائي، باعتبار أن لحظة قراءة العنوان مرحلة مهمة في العبور إلى قراءة النص وفهمه واستيعابه، ومما لا شك فيه أن احتقار اللحظة العنوانية وعدم تجشم قراءة العنوان بما تقتضيه من الاهتمام الكافي، والتركيز الشديد، قد يقود إلى فهم خاطئ لكلية النص، لذلك اتجهت هذه الدراسات والبحوث إلى دراسة العنوان كنص مستقل بذاته، ومن هذه البحوث دراستا ليو هوك Leo hoek: (نوعية العنوان La marque du titre، وسيميولوجيا العنوان La sémiotique du titre، بالإضافة إلى ما جاء به جيرار جنيث في الموضوع في كتابه معمار النص.
يتحدث جيرار جنيث في كتابه معمار النص عن العنوان باعتباره نصا صغيرا يختزل ويختصر النص الكبير، هذه الاستقلالية تقود إلى اعتبار العنوان وخاصة العنوان الشعري بنية لغوية يتركب من مفردات ينبغي دراستها تركيبيا ودلاليا للوصول إلى المرامي التي يتغيا الشاعر إبلاغها، هذا العنوان يتمظهر من خلال خطوط يمكن قراءتها سيميائيا على المستوى الخطي الكاليغرافي، و كذلك حيزه على مستوى الصفحة، بالإضافة إلى المرجعيات الثقافية والاجتماعية والإديولوجية التي يحيل عليها، بما يجعله بؤرة تختزل النص بكامله، إن احتقار اللحظة العنوانية، والقفز عليها، وعدم الاحتفال بها، يخفي العديد من القضايا المتصلة بمجال الأدب نظريا وتطبيقيا، فالعنوان-حسب ليو هوك Leo hoek- ليس فقط هو أول ما نلاحظ من الكتاب/ النص في (شكله المادي)، ولكنه عنصر سلطوي منظم للقراءة، ولهذا التفوق تأثيره الواضح على كل تأويل ممكن للنص.
فالقارئ قد يخسر رهانات كثيرة في القراءة وهو يعبر سريعا نحو ما نعتبره قصيدة مخلفا العنوان في الآثار المتلاشية للقراءة. لهذا يخلص هوك إلى أن العنوان ليس فقط عنصرا من عناصر النص، بل هو أداته السلطوية التي تنظم قراءته وتوجهها. إنه بنية لغوية لا تتجزأ من النص الشعري، لأنه خاضع لمخاض القصيدة، وهو أيضا يتجاوز اللغوي إلى ما هو بصري.
يحدد ليو هوك للعنوان ثلاث وظائف كلها ترتبط بالمتلقي: وظيفة الإخبار، فالعنوان مخبر عما في النص، ووظيفة الإنجاز وتتعلق بما ينجزه العنوان من دلالات مرتبطة بالنص، وهي محكومة بثلاث قيم: قيمة ندائية، باعتبار أن العنوان ينادي القارئ، وقيمة إجرائية ما دام العنوان يعد ويمني القارئ بمعلومات، وقيمة استمرار الحضور، فالعنوان يمنح حضورا تاريخيا واجتماعيا للنص. أما الوظيفة الثالثة فهي الإقناع إذ يحاول العنوان أن يقنع المتلقي بقراءة النص.
أما جوليا كريستيفا فترى أن التناص L’entrtextualité هو الآلية التي يؤسس بها العنوان كيانه الخاص، ويؤسس بها نصيته، لقد انتبهت كريستيفا إلى البعد الانغلاقي الذي فرضته البنيوية التقليدية على النص، ودعت إلى ضرورة النظر إليه على أنه جهاز عبر لساني يعيد توزيع أنظمة اللسان من خلال عمليتي البناء والهدم. وهذا التعدد النصي عند كريستيفا يحقق للعنوان ثلاث وظائف:
-الوظيفة المرجعية: وهي مرتبطة بالسياق الذي يتم فيه التواصل.
-الوظيفة التأثيرية: وهي متصلة بقانون التواصل، وفيها تكمن الأهداف الظاهرة والخفية من وراء إنتاج الرسالة (العنوان)، وهي أهداف لا تخرج عن إطار التأثير في المتلقي عن طريق إغرائه بقراءة العنوان قراءة دالة.
-الوظيفة الشعرية: وهي متصلة بالرسالة في حد ذاتها.
أما ميتران فيحدد للعنوان وظيفة التسمية والتعيين، والوظيفة التعريضية التي تثير فضول واهتمام القارئ، والوظيفة الإديولوجية التي تحيل العنوان على الحقل الاجتماعي وتفاعلاته وعلاقاته.
إن اللحظة العنوانية تشكل إحد مظاهر الاحتفاء بالنص حسب نوع القارئ: القارئ المثالي، والقارئ المتخصص، والقارئ العادي. فإذا كان الأخير يكتفي بما تجود به لحظة قراءة العنوان من دلالات بسيطة، فإن القارئ المثالي والمتخصص يستنطقان أسرار العنوان ليفجرا من خلالها مجموعة من الدلالات التأويلية التي تساعد على الغوص في محتوى النص واستكناه أسراره.
لا شك أن لحظة قراءة العنوان أهم لحظة ينبغي للقارئ أن يوليها عناية فائقة، مادامت أول شيء يجود به النص، إذ أن العنوان هو حمل لا يحيل فقط على النص بعده، ولكنه أيضا حمل يحيل على القارئ لإنتاج دلالات تأويلية تساعد على الإحاطة بالنص ومسك أسراره.
المصدر: القدس العربي