آثار أقدام .. للكاتب السوري سعيد قاسم

الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص- 

 

خطواتكَ في شارع يتحدّث عن مرور قذيفة ليس كُمن يتحدّث عن قضاء استراحة في مقهًى ولكنّه الاعتياد الذي يحتفظ لك بمساحة تساؤل أو نهر فضول، ربما لو أن هذه الخطوة تقدمت أو تأخرت تلك أو أن أخرى أرادت أن تلوح للموت بسخرية المداعب وكأنه جار ثقيل الظل.

ثمّة لحظات أشبه بسكين زمني يُنحّي خطواتِك عن الترادف الزمني المتوقع أو المألوف ثم يُعيد ترتيبها أو يبعثرها بما يجعلك تُعيد ترتيب علاقتك مع الزمن، الزمن أحيانا يتوقف في لحظة ما وأحيانا يكون هو المنفى، لكل شخصية زمن تنتمي إليه، وجود البعض في هذا الزمن من الأخطاء الكونية التي تجعلهم يقضون عمرهم في المنفى لأنهم لا يستطيعون الخروج من الزمن الذي يسكنهم، وقد تُنفى في لحظة ما كلحظة مرور قذيفة، قد تُنفى إلى الموت أو قد تأسُرك حياةٌ أخرى لتصبح جزءاً منها.  

أن تقشّر لحظة مرور القذيفة ليس له البعد الرومنسي لشاعر يتأمّل منظر الغروب وإنّما قد تجد حياة لها أبعاد كاملة التفاصيل و ليست كتفصيل في نشرة المساء قد ينتهي لمرور القذيفة، ولكن ماذا لو توقفت القذيفة وكأنّها تَسمع همساً قادماً من الجوار القريب، صوتاً أشبه بمناجاة جريح في مكان مهجور “ما الذي أتى بي إلى هنا ” جملة ألقت بالقذيفة إلى هدوء المكان لتلتفّ على الصوت الذي بات يتردد حولها ثم تعود بذاكرتها إلى الوراء؛ لم يعترضني حاجزٌ ما ولكنّهم ألقوا بأعضائي في تابوت مغلق، الطريق كان أسودا كسماء عالية لكنّي لم أرَ جيداً، أناشيد غريبة لم أفهمها والضوضاء من حولي أتلف قدرتي على التريث.

للأشياء صفات أخرى مخبّأة بين ثناياها كدفائنَ مجرّدةٍ من العلامات، صفات قد تناقض ما يبدو لك من النظرة الأولى، الأشياء ليست رصاصات -هي تحمل قلبا بداخلها-أمّا الرصاصة فلها موتها المُبكّر لأنّها قلبٌ على هيئة جسد، حين تبحث في قلبها ستجد أنّ الضحيّة هو أنت كالمؤمن بالشهادة، كالمؤمن بالموت، ولكنّك قد تجد تلك الصفات حين تقشّر رغبة الموات على جسد قذيفة، ربّما في ذاك الحي حيث أحدهم سيروي وهو ينبّش اللحظة: 

كان الحي مُسيلاً للصمت والسكينة وكأنّه حوض أسماك صغير في صالون قصر ملكي، مجردا حتى من حفيف مكنسة حسناء متقدمة في العمر والانتظار التي كانت تمسح الرصيف النظيف أمام البيت متخيلة آثار أقدام لضيوف قدموا لخطبتها في وقتٍ ما من مساء أمس، ثم بدأ الصوت يقترب أكثر وكأنّه مريض في مشفى حكومي استيقظ لتوه من الغيبوبة ليجعل القذيفة تتخلى عن صرختها وتقتعد وسط الشارع مستمعة الى صوت يقول: 

” أيتها القذيفة 

لا تمرّي على الشارع ذاك

لن تجدي سوى البسطاء

أعرفه جيدا، إنه شارع لا ينتمي إلى الخطابات

في أول الزاوية ستجدين بيتاً وامرأةً في أواخر الأربعين تعدُّ الغداء وابتسامة اليوم لأطفالها الثلاثة

امرأة تضع وشاحاً أسود وذكرى قذيفة.

ثم يغمض الشارع صوته وكأنه يعانق تنهيد القذيفة، يُربت على عظامها القاسية، عظامها التي لا تتلذذ بالفناء البشري، جثمانها الخاوي شاهدٌ على صفاتها المفقودة.

أنت أيها الصوت المليء بحياة ستُفنى كيف تمدّني إلى نَفَس آخر، كيف تُحيك لي خيط الفجر؟ أنا خطيئة الظلمة، ولدت فقط لأدرك موتي .. هكذا تحرق القذيفةُ الكلمات النافذة من عينها الوحيدة وكأن الصوت غربالٌ أسقطَ ما بداخلها من سواد.

ولكنّ الصوت سنسالٌ كامل الدوران، نَفَسٌ كامل الحياة، يحيط بالأمل كالحصار، يهمس في جسد القذيفة، يقشّر الموات على جسدها ويبثّ الحياة، الصوت سنسالٌ يلتفّ حول عنق الجيداء ويبعث حياءً كامل الأنوثة:

 

” أيتها القذيفة

لا تغرّنّكِ عرائشُ الياسمين على حائط البيت

إنها تسقط دون قذائف

تسقط من حمل الذكريات

لا تنظري أبعد أيتها القذيفة

هنا

لن تجدي لك اسما في نشرة الأخبار.

الشوارع هي تلك المساحات الفارغة بين أصابع المدن لذلك لا يسرد الشارع صفاته وإنما يتركها تعلو كالبخور، تسمو لتعانق الراحلين وتنثر عناوين عودتهم على مفترقات السماء لعلها تهبط على أكتاف العابرين من مدينة إلى مدينة، من شارع إلى شارع، من صوت إلى آخر، من صفاتهم التي تنتظرهم.

 

أمّا القذيفة فقد لملمت جسدها المُنكب على نفسه ثم جلست القرفصاء واضعة رأسها بين بقايا النار المخمّد في جسدها الذي بات أشبه بجثة متفسخة ثم رمت بنفسها أسفل عرائش الياسمين جاعلة من جسدها فراشاُ يسقط عليه الياسمين؛ ياسمينة تلو أخرى كفّنت الجسد الأسود ثم وجهته لتنثر على باب الحسناء آثار أقدام حقيقية وتختفي في عراء مجهول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى