مراجعة لتجربة الروائي حميد الربيعي: دور الثقافة الشعبية في تشكيل هوية سردية عراقية
الجسرة الثقافية الالكترونية
*حسن سرحان
سأتطرق في هذا المقال إلى مسألة تمس الرواية العراقية المحلية ترتبط بتأصيل النص الروائي العراقي بحيث يكتسب هوية سردية خاصة به تسمح بإدراجه ضمن التأريخ ودفعه في مخاض حركي يتلاقى فيه ويتفاعل مع غيره من النصوص العالمية دون أن يصل هذا التفاعل مع المبايِن والمختلِف من الأدب العالمي حدَّ التنازل عن شروط الخصوصيات والفوارق التي تتحدد بالثقافة والتاريخ والوعي واختلاف المرجعيات الجمالية والحضارية. لا بدّ من الاعتراف أن الكثير من نصوص كتّابنا العراقيين تتنازل عن هذه الفوارق وتتناساها بذريعة أن النص الأدبي كونيٌ وعابر للخصوصيات وهذه الحجة، عندي، واهية ولا قيمة لها. يمكن إدراج موضوع هذه المقالة ضمن المباحث النظرية التي تتصل بالنقد الثقافي.
بعيداً عن كل خطاب افتخاري ونزعة تمجيدية وآراء حماسية تعكس هوساً مرَضياً ولا تجد لها الكثير من المصاديق والشواهد في أرض الواقع، ينبغي الإشارة منذ البدء إلى ان الرواية العراقية الراهنة تعاني، من بين أشياء أخرى، أزمة هوية وإثبات الذات وبلوغ الإنيّة ناتجة عن فقدان تقاليد أسلوبية وفنية ودلالية ثابتة تمتلك القدرة على ربط القيم الجمالية التي أفرزتها رواية الحداثة وما بعد الحداثة العالمية مع قيم التأريخ العراقي الثقافي ذي الإرث الشامل على أبعاد رمزية ونوىً روحية تنأى به عن أن يكون مجرد نسق مغلق من الرموز والعلامات.
مقالي هذا يأتي في سياق التحريض على استثمار عناصر القص من أحداث وزمان ومكان وشخصيات يفترض بها ان تشكل في مجموعها تجليات عراقية حقيقية تكفل صنع هوية سردية خاصة بالرواية العراقية على غرار الهوية السردية التي تمتلكها الرواية المصرية أو السودانية أو حتى الخليجية فضلا عن الرواية المغاربية.
ان الهوية السردية في الرواية لا تصنعها فقط شخصيات الرواية من خلال قربها أو بعدها من حدود الأنا الثقافية المنتمية إلى فضاء ثقافي تحاول الرواية تمثيله وتمثله.
الهوية السردية تتشكل أيضا من تفاعل الزمان والمكان والحوار والأحداث التي يمكن تتبعها على طول امتداد زمن القص.
استثمار هذه العناصر كلها سيما المكان بفضائه المفتوح على المدينة والريف والزمان وتعدد مستويات أنساقه السوسيو/معرفية يؤسس لهوية النص ويقاربه من تمثيل الفضاء الثقافي الذي ولد فيه. ان الهوية السردية تعتمد، كما يرى ذلك بول ريكور، في الأساس على نتاج التفاعل بين عالم النص من جهة، وعالم القارئ من جهة أخرى.
وعالم القارئ يشتمل، من بين أشياء أخرى، على مرجعيات لها وجودها الراسخ في الموروث الثقافي الشعبي.
وهذا ما أريد التركيز عليه: التحريض على توظيف الثقافة الشعبية، بجانبها السردي خصوصا، في النص الروائي، ذلك اني موقن بان تكثيف استخدام سرديات الثقافة الشعبية بخزين حكاياتها وبخيالها وقابلية التوليد والنماء التي تشتمل عليها أجواؤها من الممكن ان يؤمن للنص هوية سردية خاصة. ولا يخفى أثر الثقافة الشعبية في تشكيل ملامح رواية ما بعد الحداثة. وانا ممن يظنون أن أصالة رواية ما بعد الحداثة لا تكمن في البحث عن الأشكال الجديدة في التعبير فحسب ولا في الإغراق بالتجريب الذي حوّل الرواية إلى «بقعة باهتة من السرد المتواصل».
إن خصوصية ثقافة ما بعد الحداثة تمثلت بإنتاج نوع من الفن لخصه ليبتوفسكي بأنه: «فن دون ادعاء، فن عفوي، حر، على صورة المجتمع النرجسي واللامكترث».
ومجتمع ما بعد الحداثة، لا سبيل لإنكار ذلك، نتاج مزاج معاصر أخذت ذائقته الفنية تميل أكثر فأكثر نحو تكريس الثقافة الجماهيرية إلى الحد الذي أضحت فيه هذه الأخيرة القيمة المركزية الأكثر تعبيرا عن روح عصرنا.
على أن توظيف الثقافة الشعبية لا يجب ان يتوقف عند حد استثمار ارثها الحكائي الشفوي، بل لا بد أن يتعداه إلى محاولة التوظيف الذكي والمحسوب للهجة العامية وتباينها بحسب تباين المكان دون أن يعني ذلك إغراق النص في حوارات باللهجة العامية غرضها الوحيد إظهار اختلاف اللهجة عن سواها من اللهجات. والعامية إن لم تخدم ترسيخ خصوصية الهوية السردية فلا داعٍ من استخدامها.
ان توظيف الثقافة الشعبية لن يكون ممكنا إلا عند قراءة تاريخنا المحلي ليس باعتباره تاريخا مركبا من الممارسات الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية حسب بل بوصفه عالما من الأسطورة والحكايات التي تحتوي على معان ودلالات انثروبولوجية تتماهى في كثير من تفاصيلها مع الايقاعات الزمانية والمكانية لحركة الواقع.
وهذا يبدو لي أهم شروط وعينا بخصوصية الهوية السردية لروايتنا وبدونه نفقد ميزة الكشف عن أبرز سمة للعمل الروائي المتمثلة بكونه دالا مدلوله العلة الخارجية، أي الواقع المستثمر إدراكيا من قبل الروائي. وهذه قيمة أخذت بالعودة إلى الإعلاء من شأنها كل الخطابات الثقافية المعاصرة التي تتبنى المنهجيات الما بعد حداثية في تفسير الدلالات السيميائية اللامتناهية للتفاعل المنجز بين الكاتب والواقع.
تجربة الروائي حميد الربيعي
ضمن هذا الإطار أجد أن سعي الروائي حميد الربيعي إلى تحقيق هوية ثقافية خاصة بنصوصه السردية يستحق الإشارة والتنويه لأن الأمر يتعلق، حسب ما أرى، بعمل ممنهج، مدروس ذي قصدية واضحة وليس خاضعاً لمزاج فرضته لحظةُ ابداع معزولة أو صدفةٌ عابرة، ذلك أن الروائي حميد الربيعي حاول، منذ روايته الأولى (سفر الثعابين، 1987)، التأسيس لتقاليد اسلوبية وفنية ودلالية تتحكم في عمله الإبداعي مبنية على استثمار ملامح شديدة الالتصاق بالثقافة الشعبية التي تكاد تهيمن على نصه وتحدد إنتاج الخطاب لديه.
أجواء رواياته (سفر الثعابين، تعالى وجع مالك، جدد موته مرتين، ودهاليز للموتى) راكزة داخل سياق اجتماعي معروف أو قابل لأن يكون معروفاً يتغذى من التاريخ ويعتمد على عصرنة بعض أشدّ الأساطير الشعبية فاعليةً في العقل الجمعي العراقي ( واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين وصحبه وآل بيته سنة 61 هجرية، على سبيل المثال) وتوظيفها لصالح الواقع الذي ترسمه الرواية.
ينبغي التأكيد على أن استرجاع الأسطورة ليس فعلاً سلبياً خاملاً في نصوص حميد الربيعي لأن الميثولوجيا، وإنْ تلبست لبوس القداسة في روايات الكاتب، تبقى تمارس دورها التفسيري داخل النص.
لذا فان استحضار الحكاية الشعبية المروية شفاهاً وتحويلها إلى متن حكائي قادر على أن يخلق هيكلية سردية لخطاب روائي متميز يتجاوز، عند حميد الربيعي، مجرد النبش في الذاكرة الجمعية المحلية ويتعداه إلى محاولة خلخلة الاعتقاد بهيمنة الرمز وبفاعلية سطوته المقترنة دوماً بالسياق الثقافي المنفلت عن قيود الزمان والمكان.
في نصوص حميد الربيعي الروائية التي تستعيد الأساطير النابعة من المحيط الشعبي، يختلط الميتافيزيقي بالآخروي بالجيوسياسي مما يضمن للأسطورة فاعلية وراهنية تساهمان بانتمائها إلى الزمن الحاضر وهذا شرط (أعني عصرنة الحكاية الشعبية الملحمية) لا غنى عنه لأنه يكفل للأسطورة الاستمرار والبقاء.
لا تظل الأساطير حية إلاّ عند ربطها بحركة الواقع وديناميته بينما تخلو من أي معنى وتكون ميتة إذا ما تركت حبيسةً في الماضي.
أضف إلى ذلك، ان الأسطورة عندما تتداخل في الواقع وتتشابك معه، لا يعود هذا الأخير نفسه أو على الأقل ان تأويله وتفسيره سيتغيران.
وهذا ما يفعله حميد الربيعي في رواياته التي تعرض لنا الكيفية التي بحسبها نستطيع ان نرى أساطيرنا حيةً بحيث لا تعود هذه الأخيرة مجرد حكايات تنتظم داخل الإطار العام لموروث جماهيري أودعت فيه المخيلة الشعبية جزءاً أساسياً من أحلامها وآمالها ومداراةِ خيباتها، بل تتحول إلى علامات لتأويل الواقع وتفسير ملابساته.
عندما يستعير أبطال الربيعي (أو أبطاله المضادون، إن شئتم دقة أكبر) مسيرة أسطورية فانهم يلونونها بدوافع تنتمي إلى العصر الذي توظف فيه الحكاية الميثولوجية.
بمعنى ان المخطط الميثو/سوسيولوجي لرحلة الشخصيات التي يتعامل معها الربيعي لا يطابق دوماً تفاصيل الإسطورة المعاد تفعيل حضورها بل ينفلت مرات عديدة عن الأصل كي يقترح مقاربات غير تلك التي تصدت لها الحكاية/النموذج في نسختها الاولى وهذا ما يتجلى بشكل خاص في روايتي المؤلف «سفر الثعابين» و»جدد موته مرتين».
يبقى خطر توظيف الأسطورة متمثلاً في انها وسيلة مثلى لتمرير ايديولوجيا فكرية قد تجنح بالعمل الروائي نحو المباشرة والقصدية سيما في حالة فرض تساوق منطقها الخيالي مع أفق توجهات الكاتب ومناطق تفكيره الأثيرة.
على أني لا أستبعد البتة، ولديّ في روايات الكاتب أكثر من شاهد، أن الربيعي، بما يتوافر عليه من موهبة ما زالت تحتفظ بالكثير، قد تجنب تورط الخضوع لاغراء التبني الفج لمقاصد وبنى وتسويات سياسية أو اجتماعية أو حتى فنية.
تبقى تجربة اشتغال الروائي حميد الربيعي على منطقة الاغتراف من الموروث الحكائي الشعبي بوصفها محاولة مواربة لزحزحة التبئير، في فضاء الكتابة، من اليومي والعادي ونقله نحو العلوي والمقدس محاولة إبداعية مميزة من منظور سعيها لخلق بنية روائية ذات رؤية جمالية يتداخل فيها الغرائبي بالمألوف والعجائبي بالممكن والملحمي بالواقعي.
المصدر: القدس العربي