نبيل سليمان: أنا شوكة في حلاقيمهم جميعاً
الجسرة الثقافية الالكترونية
سامر محمد
قرابة نصف قرن من الكتابة الروائية والنقدية شكلت شخصية أدبية حققت حضورها العربي مثلما أنجزت سِفرها السردي عن بلادها.
الروائي السوري نبيل سليمان ومن روايته الأولى «جرماتي» مروراً بثلاثيته «مدارات الشرق» و «أطياف العرش» و «المسلة» و «دلعون» وصولاً إلى «حجر السرائر» و «سمر الليالي» يخلص اليوم لروايته «نمنوما ـ جدرايات الشام» وكتابه الصادر حديثاً في بيروت: (أخيولات روائية للقمع والطائفية)؟ يستعد لإصدار كتابيه الجديدين قريباً في الشارقة: (طغيانيا ذا) و(غابة السرد الروائي).
عن هذا وغيره كان حوار «السفير» الآتي مع الروائي «سليمان»:
أن يسأل المرء في سوريا: أين نحن الآن، فقد يبدو ذلك من السذاجة والاستفزاز بمكان. ولكن أليس هذا هو السؤال السوري الجوهري اليوم؟
– يصدع هذا السؤال كل سوري وسورية ليل نهار منذ رد العنف على السلمية، وفشت العسكرة، وبدأت كرة الثلج الدموية تتدحرج، حتى بلغنا ما بلغناه. أين نحن الآن؟ في ثورة؟ لا: أُسرع إلى الجواب. في حرب؟ نعم: أُسرع إلى الجواب، ولكن أية حرب هذه؟ لماذا لا تكاد تستقر على اسم ولا على صفة؟ حرب وحشية هي؟ لكن هل من حرب غير وحشية؟ حسناً، هل هي حرب طائفية؟ أم إنها حرب إقليمية؟ حرب دولية هي؟ مؤامرة؟ حرب كونية؟ في تقديري أن ما نحن فيه الآن في سوريا وليبيا واليمن والعراق، هو حرب لها نصيب كبير أو أكبر من كل اسم أو صفة مما تقدم، ومما يقدمه غيري.
أين أنت الآن؟ أين نبيل سليمان؟
أنا، أنا سوريا التي لن يُبْقي منها الدمار حجراً على حجر، وأنا الكرة التي تتقاذفني المؤتمرات والمعارضات والأحزاب الشائخة والأحزاب الجديدة التي توالدت كالفطر مخصية ومجدورة. ولأنني كل ذلك فموقعي الآن لا لبس فيه: شوكة في حلاقيمهم جميعاً: من هذا الذي يبيع السبية الإيزيدية، إلى هذا الذي يبيّض وجه جبهة النصرة أو أي وجه نظير، ومن هذا الذي تعمي الثأرية بصره، إلى هذا الذي لم يكفه كل ما عاث في سوريا خلال نصف قرن، فتراه الآن يتخلّق في ميليشيات وعصابات تخطف وتتسابق إلى غنائم المدن والبلدات المدمرة المهجورة.
لكأنكَ عازم على تشريح المجتمع في الرواية الأحدث: (جداريات الشام – نمنوما)، شأنك في تسع عشرة رواية قبلها. ولكن في ما يخص الرواية الأخيرة، لكأنك تمضي أبعد وأقسى في إدانة المجتمع، بناءً على قاعدة: كما تكونون يولى عليكم؟
بعد نصف قرن من استبداد الحزب الواحد، والفساد الذي نخر المجتمع والسلطة، وسواه من آلام وخرائب نصف قرن، جاء الشباب والشابات، ولم يعد السؤال سؤال الماضي وحسب، بل صار سؤال الحاضر، أي سؤال المستقبل، أي سؤال التغيير. ولكن ماذا عن المعارضة الداخلية أو الخارجية المنبتّة الجذور أو الواهية الجذور على الأقل، والمنهكة من القمع ومن المنافي، والتي تفتقد الخبرة، والتي شرعت العواصم تتقاذفها؟ ماذا عن السلمية التي سرعان ما وئدت بالعنف وبالعسكرة؟ ماذا عن الطائفية؟
ليست المسألة أن تكون الرواية قد أدانت المجتمع و/أو السلطة، بلطف أو بقسوة. المسألة هي أن يبدع الفن في صوغ السؤال، وربما في صوغ الجواب أو بعض الجواب. إذاً السؤال أولاً، وهذا ما حاولته منذ الرواية الأولى قبل خمس وأربعين سنة، ولكن بدرجات وأشكال شتى، وصولاً إلى 2011، ذلك العام الذي هو بألف عام، عام التظاهرات السلمية والوحدة الوطنية والشباب والشابات والعشق والصداقة والمخبرين وتجارة السلاح والنفخ في كور الطائفية والمذهبية والتدمير والاعتقال والخوف والنزوح والتهجير والمجلس الوطني وهيئة التنسيق وحركة معاً ومؤتمر سميراميس والعرعور والتفجيرات والمذابح والقاعدة و…لكل مفردة من هذه المفردات، كيانها الروائي، لها شخصية أو حارة أو قرية أو شارع، لها عراء الروح. ومنها ما توالى في السنوات التالية التي جدّ فيها جديدها، ولذلك كان عنوان الرواية (جداريات) وليس (جدارية).
التسجيل
هل في هذا العنوان (طغيانياذا) صدى للإلياذة؟
– أرجو ألا يكون صدى فقط، بل أصداء.
مرة أخرى في (مدارات الشرق) كما في (جداريات الشام)، وكذلك في العديد من رواياتك (المسلّة ـ أطياف العرش… وصولاً إلى حجر السرائر) يبرز بقوة نزوعك إلى التسجيلية وإلى الوثائقية. هل هذا هو اقتراحك الفني الأكبر إذاً؟
– ربما، وإن كنت أميل إلى القول إنه واحد من اقتراحاتي الفنية الأكبر. والمهم أنني أحاول أن أهيئ لكل رواية ما تقتضيه من قراءات أو أبحاث أو أسفار، مما يمكن أن تصفه بالوثيقة التي قد تكون قصاصة أو مجلدات أو رسالة، كما قد تكون شفوية. أجل، وثيقة شفوية، أعني أن الشفوي إذ تتمثله الرواية، فإنه يغدو وثيقة روائية، كما أن الوثيقة المكتوبة تغدو وثيقة روائية حين تتمثلها الرواية. وبالتالي، ليست الوثيقة في الرواية هي نفسها خارج الرواية.
الوثيقة الروائية شيء والوثيقة غير الروائية شيء آخر، بينهما تواشج وبينهما اختلاف. وبهذا المعنى ليست كل رواية تستثمر الوثيقة برواية وثائقية، إذ ثمة روايات تغلّب توظيف الوثيقة كما هي، وغاية ما تفعله بها غالباً هو التقطيع. وربما كانت روايات صنع الله إبراهيم من هذا القبيل. وقد عرف المسرح أيضاً هذا النمط.
سفر المرحلة
تندغم شخصيات (جداريات الشام – نمنوما) في ما تعيشه سوريا منذ 2011، وتتسلل إلى الرواية مفردات المرحلة، كما تفسح لأحداث ليبيا وتونس ومصر واليمن. هل تستطيع الرواية أن تكون سِفْراً لمثل هذه المرحلة؟
– بعدما قلّبتُ التسمية لما يجري منذ 2011، كما قلّبها آخرون، بين الثورة والحراك وصولاً إلى الحرب الأهلية وو…. اخترت منذ ثلاث سنوات اسماً واحداً هو الزلزال. وكما لم يُرْضِ اختياري من لا يقولون إلا بالثورة، لم يُرْضِ أيضاً من لا يقولون إلا بالمؤامرة أو بالحرب الكونية. وكما تزلزلت المدن والبيوت والقرى والمصانع والمساجد والأجساد والأرواح والصداقات واليقينيات و… كذلك كان الأمر لبشر رواية (جداريات الشام) ولفضائها المركّز بخاصة في سوريا، والمترامي منها إلى ليبيا ومصر وتونس واليمن والعراق، على الأقلّ. ولأنه باتت لنا لغة جديدة في الإعلام وفي الغزل وفي المقالات الثورجية وفي الخطابات والبيانات الدينية الداعشية أو الشيعية.. لكل ذلك انضافت للغات الروائية لغة ـ لغات جديدة. وإذا كان ذلك يطيش بألباب ساسة ومنظّرين وروائيين ونقاد، فهو أيضاً أثرى الكتابة الروائية بأحداث ووقائع وأخيولات وحكايات وشخصيات وتأملات وأطروحات، على الرغم من أن الزمن لا يزال محدوداً. وإذا كان الأمر كذلك، فالرواية التي لا تلهث خلف الراهن، ولا تغرق في العابر، لها وعليها أن تكون سِفْرَ هذه المرحلة، مثلما كانت أسفاراً لمراحل لا تقل استثنائية عبر التاريخ، وحسبي أن أذكر هنا بالنسبة للرواية العربية مفصل 1948.
هل يمكن القول إن ثمة نصا غائبا اليوم في سوريا، بحكم هجرة كتابه إلى خارج البلاد؟ وبالتالي كيف ترى إلى الرواية في سوريا الآن، وأنت المعروف بمتابعتك النقدية لكل ما هو جديد؟
– دعني أذكّر أولاً بأن من الكتاب والفنانين من هاجر طلباً للنجاة من العقاب على نشاط مدني ما، قام به. وثمة كثيرون وكثيرات سال منهن ومنهم اللعاب أمام إغراءات اللجوء السياسي أو الإنساني. ومهما تكن الأسباب فقد أخذ يتشكل (نص غائب) كما تقول، نصّ منفي أو مهاجر، كما أضيف. وهذا النص هو الراجح من الإنتاج الروائي السوري خلال سنوات الزلزال. وقد جعلت جملة ذلك الإنتاج الذي بلغ حتى مطلع هذه السنة تسعاً وعشرين رواية، جعلته مادة البحث الذي قدمته في مؤتمر الرواية الذي انعقد في القاهرة في آذار الماضي. والمفارقة هنا هي أن الرواية هي ما استجاب فوراً وبحرارة، وبالطبع بتفاوت، للزلزال، بخلاف المألوف في أن تكون الاستجابة الأولى للشعر. وأضيف: ان الاستجابة بالدرجة الثانية بعد الرواية، كانت للدراما.
إذاً ما الذي تحاوله الرواية السورية في زمن التخوين والتكفير؟
مرة أخرى أثبتت الرواية في سوريا أن الكتابة في اللجّة، أي قبل أن يهدأ الزلزال وتختمر التجربة، يمكن أن تقدم إبداعات مميزة، كما يمكن أن تكون محرقة لمن لا يمتلك أو لا تمتلك رؤية ثاقبة، وحساسية تاريخية إن صح التعبير، وكذلك: نزاهة وإخلاصاً لا متناهياً للفن، وهذا ما أثبتته من قبل الرواية العربية التي كتبت أثناء الحرب التي ودعت بها الجزائر ولبنان القرن الماضي؛ فمن اللافت أن معظم الروايات السورية المعنية قد جاء من موقع معارض، وبينها ما أصابته اللوثة الطائفية، وكثير منها كان الرواية الأولى لصاحبها أو لصاحبتها. ومن اللافت هنا أيضاً أن النقد الموالي وهو محدود، قد قابل الإنتاج الروائي بالتجاهل أو بالعقاب السياسي الذي لا يقل فداحة عن العقاب الأمني، وإن يكن الناقد أكاديمياً أو ذا ماضٍ أقل موالاة؛ في النهاية، أظن أن العبارة الختامية الأَوْلى هي: أما الزبد فيذهب جفاءً.
المصدر: السفير