الخيل والليل والبيداء .. لم تعد تعرفني

الجسرة الثقافية الالكترونية
مي فاروق
اعتلى الرجل الخمسيني فرسه على عجل ومضى مسرعاً على سفح هضبة الأهرام.
صهيل الخيل العالي صرف انتباهي عن جلالة المكان وعظمته التاريخية وتعلقت عيناي بالقافلة الهزيلة للفرسان الذين يمتطون خيولاً ليست بالعربية، وردد لساني دون وعي بيت المتنبي القاتل والخالد معاً:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
وطرأت على ذهني أسئلة ربما تحتاج لمزيد من الاستقصاء والبحث، ولكني سأكتفي بطرحها وإثارة بعض الشبهات التي تدور حول الإجابة، أما التحليل والبحث سأتركه لمختصيه.
أسئلتي هي:
أين اختفى الفرس والفارس معاً من خريطة الرمزية الأدبية؟ وما التحولات التاريخية التي طرأت عليهما معاً؟
كيف تحولت الفروسية عبر رحلة طويلة من البيداء الى المدينة؟
ثم لماذا يمضي أكثر من ألف وخمسين عاماً – على رحيل المتنبي – دون أن ينجب التاريخ شاعراً فارساً يحمل عبقريةً فنية وفكرية ثائرة ومتمردة وطاغية كالمتنبي؟
حينما نفتح دفاتر التاريخ نجد صداقة عمرها أكثر من ثلاثة آلاف عام بين الإنسان العربي والخيل منذ أن استأنسه في هضبة نجد لأول مرة في التاريخ. إن ما تملكه الخيول العربية من سمات ترقى لمصاف الرقي والجمال يجعلها وحدها أكثر الأشياء تفرداً في حياة العربي، وحدها كانت الملهم الأكثر إبهاراً، وحدها من حمل رمزية البطولة وانطلق في فضاء مطلق لم يقيده زمان أو مكان.
صداقة تؤكد أن كل من الإنسان والخيل أضفى على الآخر غزةً وثقةً وشهرةً، فالدراسات الحديثة تؤكد أن الخيل الأصيل وليد الصحراء ونتاجها الطبيعي وقد خضع في البيداء لعملية انتقاء طبيعية صارمة، لم يصمد أمام قسوتها إلا الأجود والأقوى والأصلح فحتى يكون الحصان أصيلاً لا بد أن يكون منحدراً من البيداء، لذا كان العرب يحرصون على حفظ نسب الخيل من الأمهات لأنها كانت تحمل الصفات النقية الأصيلة.
ومن مظاهر اهتمامهم بالخيل أنهم كرسوا لها بعض المؤلفات مثل (أنساب الخيل، لابن الكلبي) و(أسماء خيل العرب وأنسابها وذكر فرسانها، للفندجاني) و(كتاب الخيل للأصمعي) فلم يكن الخيل عندهم حيواناً يدب على الأرض ولا صهوات تمتطى بل كان سراً من أسرار قوته وعزته وكرامته.
ظل الخيل وفياً راقياً متسلحاً بالصبر في مواجهة أعباء الحياة، استقرئ الأطلال والأماكن من صحراء امرئ القيس الى أندلس الفن والعمارة محتفظاً بمفرداته المعبرة عن جمال العرب والعروبة معاً.
عفواً أنا لا أروج لفكرة عودة الخيل مقترنة بالجهاد، ولكني أدعم بل وأروج لعودة الخيل كرمز إنساني يحمل سمات العزة والكرامة.
فالخيل التي عرفت المتنبي لم تعد موجودة، انقرضت وتهجنت مع مخلوقات أخرى تشبه الفئران والأرانب ولم يعد يمتطيها الفرسان، وتحول الخيل لكائنات مُتْحَفيّة يقتنيها الأثرياء من أجل التباهي والتفاخر كما تحول ليلها من ليل الرجال لليل الغواني والخفافيش ولم تعد بيداؤها مصنعاً للرجال فقط صارت مخيمات وسفارى.
شيء آخر مهم في بيت المتنبي غير رصده لعلامات الرجولة والفروسية من خيل وليل وبيداء وسيف ورمح وقرطاس وقلم، تلك العلامات التي انقطعت صلتنا بها إلا من سيف خسيس ورمح صدئ.
فالمهم بل والأهم هذا الكبرياء الأصيل وتلك النرجسية والزعامة التي يتحدث بها هذا الرجل في زمن كان الشعراء والأدباء لا يقلون منزلةً عن الأمراء.
إن عبقرية المتنبي لم تكن في موهبته الفنية بل بالقوة الفكرية والثورية في صوته الأدبي فما كان صوت الشعراء في هذا الزمن إلا طموحاً ونضالاً وقوةً وعزةً وثورةً، فأين اختفى هذا الصوت اليوم؟
لماذا صار صوت الشعراء اليوم هادئاً ذا نبرة حزينة يغشاها الانكسار ويستعلي فوقها الأسف؟
لماذا تحولت القصيدة معهم لجزء من عذاب النفس والصراخ والشكوى والإحباط؟
فهل يجرؤ أديب ومفكر اليوم على القول بكل ثبات مثلما قال المتنبي:
سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا ** بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ
بالطبع لا أعني جنون العظمة بل أعني النرجسية التي تحمل اشتقاقات نفسية عظيمة كالجرأة والشجاعة وشموخ المعاني وقوة الموهبة.
هل نجد في أدباء العولمة قولاً كأبي العلاء المعري:
وإِني وَإِن كـنـت الْأَخـيـر زِمـانـه ** آَت بـمـا لـم تَسْتـطـعـه الأوَائل
لــدَى مـوَطـن يَشْتـاقـة كــل سـيـد ** وَيَقـصـر عـلـى إِدْرَاكــه الْمُتـنـاوَّل
عندما نقرأ أبياتهم نجد نموذجاً مثالياً للإنسان الأرقى والأقوى المتسم بالشجاعة والممتلئ بارادة القوة والحياة معاً، فمن أين جاءتهم هذه القوة؟ وكيف يعود الفرس العربي الأصيل في ظل اليأس والجوع والخيبة وتلك الأفضية السوداء.. كيف يعود؟ أظنه لن يعود!
إن ما تبقى منه، حصان الشطرنج الواقف بجوار الطابية، وحصان الجمباز الخشبي الذي تتقافز على ظهره اللاعبات الفاتنات، أما الأدهم الكميت والأشهب فقد صاروا حلماً تاريخياً.
وأما فارس هذا اليوم يشبه (دون كيشوت) الذي أراد أن يزيل الظلم من العالم وينقذ بلاده من الأشرار فاستخدم سلاحاً قديماً أصابه الصدأ ورثه عن والد جده، واستخدم خوذة من الكرتون وامتطى فرساً هزيلاً لا يصلح حتى للمشي.
أيها المتنبي الخالد عبر التاريخ، أيها المعادل التراثى العظيم، لم تعد الخيل ولا الليل ولا البيداء تعرفنا، ولم نعد نعرفها.
المصدر: ميدل ايست اون لاين