نزار قباني .. شاعر النساء

الجسرة الثقافية الالكترونية
جهاد فاضل
قبل الباحث التونسي أحمد الطويلي كان لقب نزار قباني هو «شاعر المرأة»، كان المرء إذا ذكر في مجلس عبارة «شاعر المرأة» انصرف الذهن على الفور إلى نزار قباني. وإذا ذُكر «نزار» في مجلس تداعى إلى الذهن على الفور شاعر المرأة وأشعار لا تُحصى قالها نزار في المرأة، فكأنه كان ولّي أمرها، أو المحب الوحيد لها الذي ألقيت قبعات الهوى على كتفيه، بلغة الأخطل الصغير أو الوحيد بين الشعراء الذي أولاها اهتمامًا لا حدود له، مع أن الكثيرين من الشعراء لم يقصّروا بحقّها، وهي حتمًا تستحقّ.
ولكن أحمد الطويلي أعطاه أكثر مما أعطاه الآخرون، فرفع درجته من «شاعر المرأة» إلى «شاعر النساء» انطلاقًا على الأرجح من وصفه لهن جميعًا، ومن إحاطته الدقيقة بأشيائهن وأدراجهن، وغرفهن، وأسرارهن، بل تفاصيل كل ذلك وكأنه «اختصاصي نساء» في مستشفى تخصصي. ولعله لم يبالغ عندما وصف نفسه يومًا «بمؤسس جمهورية النساء» أو «بمؤسس جمهورية شعرية أكثرية مواطنيها من النساء» ولا فرق بين مؤسس الأولى ومؤسس الثانية، لأن المرأة، أو النساء، عماد الجمهوريّتين..
وفي كتاب الطويلي أنه (والضمير يعود إليه طبعًا» سئل مرة: ما هي مهنتك؟ فأجاب: عاشق، وعندما سئل عن الشهادات التي يحملها، قال: الإجازة في العشق..
وقد وصفه بعض النقاد بأنه شاعر التفاصيل الصغيرة لدى المرأة مثل أدوات الزينة والعطور والأزياء ، ولم يخطئ هؤلاء النقاد؛ لأن شاعرًا متخصصًا بالنساء، خبيرًا بحياتهن وأشيائهن الخاصة، ليس غريبًا أن يتقن كل ما يتصل بعالمهن وألا تفوته شاردة أو واردة في هذا العالم الممتلئ بالأسرار وبالمدهشات.
وينقل الطويلي عن عباس محمود العقاد أنه قال عن نزار قباني إنه دخل مخدع المرأة ولم يخرج منه. وهو ما أشكٌ به؛ لأن العقاد لم يكن معنيًا به، أو خبيرًا به إلى هذه الدرجة فالعقاد كان له عالم آخر.
كما ينقل عن الشاعر اللبناني سعيد عقل رأيًا له في نزار، إذ قال إنه لا يوجد عند نزار قباني سوى خطيئة واحدة هي أنه يحبّ المرأة!
ولكن نزار لم يكتفِ بألقابه وشهاداته التي أشرنا إليها وأشار إليها الباحث التونسي، وإنما أضاف لنفسه أدوارًا أخرى مشرّفة في تاريخه مع النساء.. فقد قال مرة في حوار أجري معه: «أنا حطّمت أقفال سجن النساء. طبعًا هناك آخرون سبقوني في الدفاع عن قضية المرأة، ولكن لا يوجد أحد دافع وقاتل بالشراسة التي قاتلت بها أنا».
وقد سأله صحفي آخر سؤالًا عن التفاصيل الصغيرة في عالم المرأة.
قال له أنت شاعر التفاصيل الصغيرة (منافض السجائر، الستائر، الجرائد، أدوات الزينة، الأزياء العطور، اللوحات..) كيف دخلت هذه التفاصيل إلى شعرك؟ أتعتبرها أكسسوارًا في عدُتك الشعرية، أم أنها في شعرك وقوامه؟.
وكان سؤال الصحفي في محله.. فمن يقرأ دواوين نزار، خاصة «قالت لي السمراء» و«سامبا» و«أنت لي» و«قصائد» وهي الدواوين الأولى التي نشرها منذ سنة ١٩٤٤ إلى سنة ١٩٤٨، يلاحظ اهتمام نزار بأشياء المرأة، وهي نزعة اختفت أو تكاد تختفي في سائر دواوينه التي أصدرها بعد ذلك. وقد ألصقت الدواوين الأولى بنزار صفة شاعر الدنتيلا وأحمر الشفاه.. وهو يهتم بلباس الحبيبة مثلما في قصائد «مذعورة الفستان»، و«ثوب النوم الوردي»، و«القميص الأبيض»، و«إلى وشاح أحمر» ، و«الجورب المقطوع». ونجد عناوين أخرى تتضمن أشياء المرأة مثل «خاتم الخطبة» و”القرط الطويل”، و«مانيكير» و«أزرار» و«كريستيان ديور» و«رباط العنق الأخضر» كلها قصائد تبين شغف الشاعر بحسن ذوق المرأة في لباسها واختيارها ما تتزيّين به، وأصبحت هذه الأشياء، التي توقف عندها الشاعر ترمز إلى فتنة الحبيبة وإغرائها وقد كساها من عاطفته وإحساسه حتى صارت موضع حبه وعشقه ووجده. أصبحت المرأة تُختزل في شيء من أشيائها الصغيرة كالقرط أو الخاتم أو نوع المانيكير الذي تختاره أو أحمر الشفاه الذي يحلّي شفتيها.
في ديوانه «أنت لي» يقول نزار :
كم وشوش الحقيبة
السوداء عن جواه
وكم روى للمشطِ
والمرآة ما رآه
على غمٍ أغنى
من اللوزة فلقتاه!
في قصيدة «الشقيقتان» تسائل الحسناء العاشقة أختها هند عن موضع قلم الشفاه والمشط والحلّي. فالزمن يسرع والميعاد مع الحبيب يقترب:
قلمُ الحمرة، أُختاه، ففي شرفات الظنّ
ميعادي معه
أين أصباغي ومشطي والحلى
إن بي وجدًا كوجد الزوبعة
تتهيأ هذه الحسناء للقاء حبيبها في مظهر جمالي فني جذاب، ويصوّر الشاعر اهتمامها بتجميل نفسها وتواصل خطابها لأختها:
ناوليني الثوب من مشجبهِ
ومن الديباج هاتي أروعَهْ
سرّحيني، جمّليني، لوّني
ظفري الشاحب إني مُسرعة
إنه الآن إلى موعدنا
جبهة باذخة مرتفعة
ركّزي يا هنُد شالي فعلى
سحبات الرصد ميعادي معَهْ!
ونلاحظ أن نزار صور أغوار نفسية هذه الحسناء التي تستعدّ للقاء حبيبها وقد رسم نزعتها من خلال الصيغ والتراكيب المختلفة، والأسئلة تنهار على أختها هند:
– أين أصباغي ومشطي وحليّ؟
– جوربي نارٌ فهل أنقذتهِ؟
– رحمة يا هند هل أمضي له؟
من خلال هذه الأسئلة وسائر أساليب البيان يصوِّر نزار قباني نفسه وتتكاثر أفعال الأمر:
– سرّحيني، جمّليني، لوني ظفري
– ناوليني الثوب من مشجبه
– ركّزي يا هنُد شالي..
تتوفر الكلمات المتأنقة بغزارة في قصائد نزار الغزلية من أمثال قلم الشفاه والديباج والأصباغ والمشط والحليّ، ونجد كلمات وتراكيب تعبّر عن عواطف هذه الحسناء واختلاجات نفسها. من ذلك:
– كاد أن يهجر قلبي موضعه
– إني مسرعة..
– أنا مبهورة ممتقعة
وتتغزل الحسناء بحبيبها فتفور نفسها، ويخفق قلبها إعجابًا مفرطًا به. فهي والهة متيمة مفرطة الجوى:
– جبهة باذخة مرتفعة
– وفمٌ لونُ الفصول الأربعة
– لا أسمّيه وإن كان اسمُه
نقرة العود وبوح المزرعة!
لا يخرج نزار عن نفس الاتجاه الفني الذي التزمه في التغزل بالحسناء وهي تتبجح بالحب، وشدّ حبيبها شدًا إليها بالتجميل والتأثير الحسي في مشاعره، نجده في قصيدة كريستيان ديور من ديوان قصائد، يبدأها بقول الحبيبة:
شذاي الفرنسي هل أثملك؟
حبيبي، فإني تطيّبت لك
لأصغرُ أصغرُ نقطةِ عطرٍ
ذراع تمدّ لتستقبلك
تناديك في الركن قارورة
ويسألني الطبيب أن أسألك
وفي قصيدة «مانيكير» من ديوان «أنتِ لي» يصور عملية طلاء الحبيبة ظفرها تصويرًا دقيقًا:
قامت إلى قارورةٍ
محمومة الرحيقِ
واستلّت المبرد من
غمدٍ له رقيقِ
ينحت عاج ظفرها
المدلّل النميق
وغرّد المقصُّ فوق
المرمر الغريقِ
واهتزّت الريشة
ذات المقبض الأنيقِ
باهرةٌ ماهرةٌ
فتّانةُ الخفوقِ !
في جلّ قصائد نزار مفردات مستمدة من معجم مفردات المرأة: العيون ذات الألوان القزحية، والعيون السود الصافية، والجفون المنسبلة، المنسدلة، والأهداب الخلابة الساحرة، والشفاه الواعدة بالقبل، والكتفان العجيبان، والأيدي الممدودة للحب.
وقد تفوّق في اختيار عناوين دواوينه، مثل «سيبقى الحب سيّدي» و«الحب لا يقف عند الضوء الأحمر».. وتفوق كذلك باختيار عناوين قصائده مثل: لو كان حبي شجرًا، الوردة والفنجان، ألا تجلسين قليلًا، أريدك أنثى، قدر أنتِ بشكل امرأة، كما أن العديد من قصائده يرد في قالب قصص تقوم على السرد والوصف والحوار والتشويق. وكان معروفًا بمهارته في توزيع البيت الواحد في عدة سطور والإكثار من وضع النقاط فوق الكلمات..
من مفاتن المرأة في شعره ترد عيناها. فهو صريعهما ودائم الترحال فيهما:
لا تسأليني هل أحبّهما
عينيك، إني منهما لهما
ألديّ مرآتان من ذهب
ويقال لي لا أعتني بهما
أنسى الذي بيني وبينهما
أبلحظةٍ تنسين سيّدتي
تاريخي المرسوم فوقهما؟
وجميع أخباري مصوّرة
يومًا فيومًا في اخضرارهما
والواقع أن أشعاره الغزلية رسائل حب طويلة محمّلة بمشاعر محملة بالعشق: عشق العيون، وصوت المرأة البنفسجي،
عندما تبدأ في عينيكِ آلافُ المرايا بالكلام
ينتهي كلّ كلام
وأراني صامتًا في حضرة العشق
ومن في حضرة العشق يجاوب؟
وفي ديوان «الرسم بالكلمات» يصوّر في «القصيدة البحرية» عيني الحبيبة الزرقاوين، المرفأ الذي ينطلق منهما في رحلته إلى بلاد الشموس، وتقلع سفينته إلى آفاق لا محدودة لا يغيب عنها الضوء:
في مرفإِ عينيك الأزرقْ
أمطارٌ من ضوء مسموعْ
وشموسٌ دائخة وقلوعْ
ترسمُ رحلتَها للمطلق
في عيني الحبيبة الزرقاوين إطلالة على مدى بحري تحلّق في سمائه طيور مسافرة إلى جزر لتستريح فيها. لكن هذه الجزر غير موجودة، والبحر فضاء مطلق لا محدود:
في مرفإ عينيكِ الأزرقْ
شبّاك بحري مفتوحْ
وطيور في الأبعادِ تلوحْ
تبحث عن جزر لم تُخلقْ
وتمتدّ قصيدة «تنويعات موسيقية من امرأة متجردة» على مدى ستة مقاطع أنهاها نزار بقوله:
كان يا ما كان
في صدرك أسماك وخيل، وديوك وملوك، وزغاليلُ حمامْ
وزغاريدُ صبايا
وأنا كنت على سجّادةِ الكاشانِ مرميًا
ومن حولي نثاراتُ شموسٍ
وفتافيتُ مرايا
وقد أولع نزار بشعر المرأة وخصّه بكثير من القصائد منها قصيدة «تعوّد شعري عليك» من ديوان «الرسم بالكلمات»:
تعوّد شعري الطويل عليك
تعوّدتُ أرخيه كلّ مساء
سنابل قمحٍ على راحتيك
تعوّدت أتركه يا حبيبي
كنجمة صيفٍ على كتفيك
فكيف تملّ صداقة شعري
وشعري ترعرع بين يديك؟
>>>
حبيبي أخافُ اعتياد المرايا عليك
وعطري وزينة وجهي عليك
أخاف اهتمامي بشكل يديك
أخافُ اعتيادَ شفاهي
مع السنواتِ على شفتيك
أخافُ أموتُ، أخاف أذوبُ
كقطعةِ شمع على ساعديك
فكيف ستنسى الحرير
المصدر: الراية