هادي قدور يفتح ندوب الحرب العالمية الأولى

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

أنطوان جوكي

 

منذ روايته الأولى «والتنبرغ» (٢٠٠٥)، اتّضح ميل الكاتب التونسي هادي قدّور إلى النصوص الطويلة التي تسمح له بمقاربة عميقة لأحداث القرن العشرين الكبرى وصراعاته. روايته الأخيرة «المتفوّقون»، التي صدرت حديثاً عن دار «غاليمار» الباريسية، ولقيت إقبالاً في الإعلام، لا تشذّ عن هذه القاعدة، إذ يسلّط في نصّها الطويل ضوءاً كاشفاً على مناخ الحقبة التي تلت مباشرة الحرب العالمية الأولى.

أحداث الرواية تقع في مطلع العشرينات، في مدينة عربية خيالية تحمل اسم «نحبِس»، ونحزر بسرعة أنها استعارة لإحدى مدن المغرب حيث عمل قدّور مدرّساً لفترة اثنتي عشر عاماً. مدينة ساحلية ذات طابع ريفي يفصل وادٍ عميق بين أحيائها العربية والأحياء التي يقطنها الأوروبيون، ويتعايش جميع سكانها وفقاً لنظامٍ دقيق وصارم وضعه المستعمر الفرنسي بغية تأمين ديمومة سلطته. ولكن مع قدوم فريق سينمائي أميركي إلى المدينة لتصوير فيلم بعنوان «محارب الرمال»، يتزعزع هذا النظام تدريجاً بسبب اختلاط أفراد هذا الفريق بسكان المدينة العرب وأفكارهم التحررية وسلوكهم الماجن.

ولسرد روايته، يستعين قدّور بعدد كبير من الشخصيات، علماً أن ثمة خمس شخصيات رئيسة فيها: الشابة الأرملة رانيا التي تفتننا بثقافتها الواسعة وأفكارها الحداثوية ونقدها المحكم للتقاليد الشرقية التي تجعل من المرأة رهينة في يد الرجل طوال حياتها؛ الشاب اللامع رؤوف الذي يضارع ابنة عمه رانيا بثقافته ويعاشر المحيط اليساري في المدينة الذي يناضل من أجل إنهاء الاستعمار؛ الشابة الأميركية الجميلة كاترين، زوجة المخرج الذي يثابر على خيانتها؛ غابرييل الصحافية الفرنسية النسوية التي تنظر بعين غاضبة إلى سياسة بلدها؛ وغانتيي الضابط السابق و»الفرنسي الوحيد الذي لم يحوّله الاستعمار إلى أبله»، وفقاً لوالد رؤوف.

خمس شخصيات لن تلبث أن تربطها علاقات حميمة. ولأن التقاليد تفرض على رانيا عدم الخروج من منزلها إلا للإشراف على سير العمل في المزرعة التي تديرها، تضطلع صديقتها غابرييل بمهمة إطلاعها على ما كل يحصل في المدينة. وبالتالي، نراها تعيش بالوكالة، غير قادرة على تلبية أحلامها وطموحاتها، علماً أنها ستتمكن بذكاء كبير من صد محاولات أخيها لتزويجها على هواه. ويواجه رؤوف متاعب مع سلطة الاستعمار بسبب توجهاته السياسية، فيسفّره والده إلى فرنسا برفقة غانتيي، وتنضم إليهما غابرييل وكاترين.

في باريس، تنكشف لنا طبيعة العلاقة الغرامية التي تربط رؤوف بكاترين، ومشاعر غانتيي تجاه غابرييل، ويتردد رؤوف على الاجتماعات التي ينظّمها اليسار الثوري، حيث نتعرّف إلى هو شي مين ودينغ كسياوبينغ وشو إن لي في شبابهم. بعد ذلك، يتابع الأربعة سفرهم فيزورون مقاطعتي الألزاس والرور ويتوقفون في مدينة برلين حيث نطّلع معهم على معاناة الشعب الألماني بسبب ديون الحرب والتعويضات المالية التي فُرضت عليه، ونشاهد تنامي نفوذ الحزب الذي سيقود أدولف هتلر إلى الحكم.

ومع عودتهم إلى «نحبِس»، تتبدد أوهامهم العاطفية على أرض الواقع ويدخلون في حالة إحباط تشكّل انعكاساً للوضع العام في المدينة. فبينما يتخلى أفراد الفريق السينمائي الأميركي عن سلوكهم الماجن إثر تنامي سلطة التيار المتزمّت في أميركا بسبب فضيحة أخلاقية هزّت هوليوود، تشدّد سلطة الاستعمار الفرنسي قبضتها على المدينة وتلجأ أكثر فأكثر إلى القوة والبطش، مضيّعةً فرصاً عديدة لإجراء إصلاحات سياسية، ما يقود أبناء المدينة تدريجياً إلى الثورة ويقرّبهم حتماً من ساعة الاستقلال.

خاتمة الرواية تراجيدية تفاجئ القارئ نظراً إلى الطرافة المسبغة عموماً على عملية السرد، وإلى تمكّن الكاتب من خطف انتباهنا بغزارة الأقدار الفردية والأحداث التي يرويها، علماً أن كل هذه الأقدار والأحداث تقود حتماً إلى هذه الخاتمة، ولكن ضمن حبكة خفية وحاذقة لا نمسك بخيوطها كلها إلا عند نهاية النص. ومن هذا المنطلق نفهم غوص قدّور بشخصياته في تلك الحقبة المفصلية من تاريخنا الحديث، حيث نُدوب الحرب العالمية الأولى تُنبئ بالجروح المقبلة. شخصيات تبدو جميعاً، وإن في شكلٍ متفاوت، مدركة أو متشبّثة بما توارى من دون عودة، أو متأمّلة بغدٍ أفضل، فتتحاور وتتواجه بعنف، وتحاول تدجين الآخر أو جرحه أو إغراءه، ضمن علاقات تتشكّل من مادة التاريخ نفسها. وفي هذا السياق، يصوّر الكاتب عذابات هذه الشخصيات وإشراقاتها، موفّقاً بمهارة لافتة بين الحوارات السياسية والصمت الملازم لمشاعر الحب.

طبعاً، يمكننا وصف هذه الرواية بالتاريخية لولا الأبعاد الكثيرة التي تتحلّى بها ويتعذّر اختزالها بهذه الصفة من دون الإساءة إلى غِنى نصّها، ولولا استخدام قدّور التاريخ لتشييد صرح روايته أكثر من وضع نفسه وروايته في خدمة التاريخ. ومع ذلك، تنير «متفوّفون» بطريقة فريدة وبصيرة الحقبة التاريخية التي تتناولها، وتتميّز في الوقت نفسه بجانب استعاري قوي يستحضر تناقضات وصراعات زمننا الراهن.

يبقى علينا أن نشير في النهاية إلى صقل الكاتب في عمله هذا لغةً رشيقة تســـمح له برســـم شـــخصياته الكثيرة بدقة بالغة وبمحاصرة مسارات حيواتها من أقرب مسافة ممكنة، وإلى استعانته بمعرفته الكبيرة بالشعر العربي الكلاسيكي من أجل إدراج أبيات شعرية لأبي نواس وبديع الزمان الهمذاني والجاحظ وكثيرين غيرهم داخل روايته، ما يُثري نصّها ويمنحه نكهةً فريدة.المصدر: الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى