لعنة الاستبداد.. ثمن الحرية
الجسرة الثقافية الالكترونية
نذير جعفر
مُرهقون ومهدورون… يردّدها الغلابة العُزّل من السلاح والمال والجاه على امتداد هذا الشرق القديم/ الجديد، الغارق في الدم والأساطير وبريق المجد والخلافة والحور العين، والخلود من زمن الفراعنة المتشبهين بالآلهة أو المتألهين حقيقة لا ترميزاً، إلى زمن البابليين وحاكمهم المستبد المطلق جلجامش. ومن زمن الحجّاج بن يوسف الثقفي إلى زمن أبي العباس السفاح. مهدورون ومحاصرون، يردّدها عمال التراحيل، والجند المشاة، وطلاب العلم، ومعتكفو التكايا، والبناؤون، والحمّالون، والأمهات الثكالى، وسبايا الحروب، والمحتجون بــ «لا» سرّا وعلانية من المعتزلة، وإخوان الصفا، والقرامطة، والزَّنج، إلى أبي ذر الغفاري، والحلّاج، والسهروردي، والنّسيمي، والعصافير في أقفاصها فجراً.
لذلك كله ولغيره كثير، فما إن انطلقت حناجر الجموع الغاضبة، المكلومة في ساحات وميادين بعض العواصم العربية هاتفةً: «الشعب يريد إسقاط النظام»، حتى بدأت العروش تهتزّ، والأقلام تتبارى، والعقول تقدح، والأحلام الوردية تشتعل، والصحف ومواقع التواصل والفضائيات والساسة والمعلّقون والمعتقلون والمهجّرون في المنافي يختزلون المشهد كله في معنى واحد تصوغه مطالبهم المحقّة المؤجلة، ورغباتهم المتأججة في صيحات وعناوين متعدّدة: «سقطت عصور الاستبداد الشرقي»، «انتهت صلاحيات الطغاة»، «وداعاً للديكتاتوريات». لكن هذه الصيحات لم تُطح حتى اليوم الأوتاد كما كان يأمل الكواكبي، ولم تأت حتّى اليوم بالحرية المنشودة بوصفها نقيضاً للاستبداد، بل سرعان ما بدأ ينسحب مطلقوها من الميدان، ويتلاشى صداها، وينقشع عن قوى وتنظيمات متربصة وجدت في ما يحدث فرصتها التاريخية للانقضاض ونشر فوضاها وراياتها السوداء في ليبيا، واليمن، وسوريا، والعراق على نحو خاص، فوضى تتوخاها قوى العولمة المتوحشة في الغرب، وتدفع بها في بلدان بعينها دون سواها من أنظمة الحكم الشمولية والإقطاعيات النفطية الأوليغارشية التي تدور في فلكها، وتسعى لتنفيذ مشروعها «الشرق أوسطي» الجديد الذي ينذر بما هو أشد وأدهى من (سايكس ـ بيكو) وأخواتها!
ترى من المسؤول عن كل ما آلت إليه أوطاننا، أهي أنظمة الحكم الديكتاتوري؟ أم أطماع الغرب ومشاريعه؟ أم لعنة الاستبداد الشرقي المتغلغلة في كل مركّبات الشخصية العربية، التي تنسحب على المعتقد، والفكر، والطباع، والسلوك، في البيت، والمدرسة، والوظيفة، والأحزاب، والجمعيات الأهلية؟
السلطة المطلقة
إن مصطلح «الاستبداد الشرقي» لا يعني أن الاستبداد خاص بالشرق، أو أنه طبعُ ينتقل بالوراثة من جيلٍ إلى آخر، فقد عرّف الإغريق أيضا ظاهرة الاستبداد إلى الحد الذي أطلق فيه على الفترة من (650 ـ 515 ق. م) عصر طغاة اليونان. ودرج مصطلح «الاستبداد» في محاورات أفلاطون 374 ق.م، حيث توقف في تلك المحاورات عند طبيعة الطاغية وسلوكه وممارساته من خلال معايشته اليومية للطاغية (ديونيسيوس).
أمّا أرسطو فقد أشار في كتابه «السياسة» إلى مفهوم الاستبداد Despotism وعرّف المستبد Despot بأنه: «رب الأسرة، والسيد على عبيده، وملك البرابرة الذي يحكم رعاياه كالعبيد». أما مصطلح «الاستبداد الآسيوي» الذي يترجمه بعضهم بالاستبداد الشرقي فقد أشار من خلاله إلى تأليه الحاكم لدى قدماء المصريين، ومعاملة الشرقيين لزوجاتهم معاملةَ العبيد.
ويذهب (هيغل) في مقاربته للاستبداد الشرقي أبعد من ذلك فيرى أن الشرقيين لم يكونوا أحراراً، وكل ما عرفوه شخصاً معيّنا حرّاً هو الحاكم، وبقية الشعب عبيدٌ له بالطبيعة. أما ماركس فقد توقف عند نمط الإنتاج الآسيوي بوصفه نمطاً خاصاً خارج ترسيمة تطور علاقات الإنتاج في المجتمع الأوربي؛ حيث الزراعة فيه تعتمدُ على مياه الأنهار وليس الأمطار؛ الأمر الذي جعل مشاريع الرِي والتحكم في المياه تستدعي وجود حكومة مركزية قوية (استبدادية). ويفرد (كارل فيتفوغل – 1896 ــ 1988م) كتاباً خاصا في العام (1957) متكئا فيه على مفهوم (ماركس) لنمط الإنتاج الآسيوي، تحت عنوان: «الاستبداد الشرقي: دراسة مقارنة للسلطة المطلقة». يرى فيه أن نمط الإنتاج المعتمد على الري في الحضارة الشرقية القديمة؛ استوجب وجود سلطة طاغية قادرة على تعبئة العمالة اللازمة لذلك بالقوة. وإذ تبدو تلك الآراء قابلة للنقاش والأخذ والرد والتفنيد، فإن ما ذهب إليه عالم الاجتماع الفرنسي (مونتسيكيو) يكشف عن نزعة عنصرية بغيضة حيث رأى في الاستبداد نظاماً طبيعياً بالنسبة للشرقي؛ لكنه غريب وخطر على الغرب! متجاهلاً أن الغرب الرأسمالي أنتج عدداً لا يستهان به من أنظمة الاستبداد (النازية، والفاشية) والطغاة (غراتشكوف، بسمارك، تشاوشيسكو، فرانكو…) وما زال يمعن في استبداده عبر محاولته عولمة العالم كله على مقاساته، وتمييع الثقافات الوطنية، ليبقى قطباً واحداً ووحيداً في فرض نمطه وسياساته، متحكّماً بالشعوب بحسب أهوائه ومصالحه في المقام الأول.
لقد وقف مفكرو عصر النهضة العرب (1798 ـ 1939م) طويلاً أمام ظاهرة الاستبداد، واتفق معظمهم (الكواكبي، أديب إسحق، فرح أنطون) على أن الحكم الذي يمارس من قبل العثمانيين وولاتهم حكم استبدادي يفرض نفسه بالقوة مخلّفا أبشع الآثار التي تنال من حرية الإنسان وكرامته ومعتقداته وثقافته. فدعا قسم منهم إلى تحرير الشخصية من التقاليد والغيبيات والأخذ بالعلم التجريبي وفصل الدين عن الدولة (فرح أنطون) فيما دعا (الكواكبي) و(رشيد رضا) إلى الدمج بين السلطتين الدينية والمدنية على أن يكون الخليفة عربياً، ودعا محمد عبده إلى حكومة (المستبد العادل) في محاولة للتوفيق بين السلطتين الدينية والمدنية.
المد الظلامي
وإذا كان الاستبداد على حدّ تعبير الكواكبي «تَصَرُّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة». أو هو «غرور المرء برأيه والأنفة عن قبول النقيصة أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة»، فإن «الاستبداد الشرقي» بميراثه السياسي والفكري والديني يقف وراء كل هذا القهر التاريخي والخراب، ويسمح بتنصيب المستبدين/الطغاة، ويطلق أيديهم باسم شخصياتهم المقدسة في حرمات وأموال وممتلكات وأرواح رعاياهم، بلا قيد أو شرط بما يتوافق مع مفهوم الثيوقراطية في السلطة الذي يتناقض مع مفهوم التعاقدية (النظام الديموقراطي) بحسب ما نص عليه العقد الاجتماعي عند جون لوك، وجان جاك روسو!
إن إثارة مسألة «الاستبداد الشرقي» اليوم، تأتي في سياق البحث والإجابة عن الأسئلة التي يطرحها الواقع الجديد، ووضع اليد على الجرح، بعيداً عن الاستغراق النظري في أصل المصطلح، ودلالاته، وما يشوبه من التباسات، ويستدعيه من اعتراضات مشروطة، إلا في الحدود الضيقة التي يقتضيها السياق.
ومن تلك الأسئلة الملحة التي تفرض نفسها الآن: ما الذي لجم المشروع النهضوي التنويري ووقف حائلاً دون فصل الدين عن الدولة الذي رأى فيه رواد النهضة المقدمة الضرورية للانتقال من النقل إلى العقل، ومن المعتقد إلى المعرفة، ومن التوحش إلى المدنية، ومن دولة العصبيات الطائفية إلى دولة المواطنة والقانون؟ أتراه ميراث (الاستبداد الشرقي) ذاته المشبع بحمولاته السياسية والدينية والمذهبية؟ وهل هذا الميراث قدرٌ لا مفر منه إلى الحد الذي ولّد عبوديته أو المناعة ضده؟ وما الخيارات المطروحة أمام استفحال المد الظلامي الإرهابي الذي يهدد بنية المجتمع بمختلف أطيافه؟
المصدر: السفير