التشكيل الفني في ديوان ” مزن الغياب ” للشاعرة سوسن داوودي

الجسرة الثقافية الالكترونية-خاص-

 

 

د. عمر عتيق 

 

  إن الفضاء الفني للعنوان المؤسس على تشبيه الغياب بسماء مفعمة بسحاب ماطر يفضي إلى التأكيد على ماهية الماء والمطر في الموروث الثقافي ؛ فالماء والمطر الذي يختزله العنوان  في لفظ (المزن ) إما أن يكون عذابا ومحنة ، وإما أن يكون خيرا ورحمة وغيثا . واستئناسا بما تقدم فإن مزن (مطر ) القصائد يتوزع في الديوان على فضائيين وجدانيين ؛ فضاء تُمطر فيه المزن دموعا وأنينا وخيبة وترقبا وانتظارا . وفضاء تُمطر فيه المزن رجاء وحلما وتفاؤلا ، وبهذين الفضائيين المتناقضين يكون عنوان الديوان قد عبر عن طبيعة النفس الإنسانية التي تتجاذبها الآمال والآلام .

 وإذا ربطنا دلالة العنوان ومضمون القصائد  بصورة غلاف الديوان يتجلى لنا التناسب والتواصل ؛ إذ إن صورة الغلاف تبدو امرأة ترتسم على وجهها ملامح الحزن المعتق في جرار الانتظار والترقب ، وتتجلى في قسمات وجهها ملامح الحلم بأمنيات ما زالت تطويها مسافات الغياب والبعد . 

 

 

التصوير الفني 

تحفل قصائد الديوان بألوان الصور الفنية التي تتوزع على صور موسيقية وضوئية وصوتية ؛ وأعني بالصور الموسيقية توظيف الشاعرة للأصوات الموسيقية في التعبير عن فكرة أو إحساس ، فالشاعرة تجمع بين موسيقى اللغة وإيقاع الشعر من جهة ، والموسيقى الآلية من جهة أخرى ، ويبرز صوت “الناي ” في غير قصيدة من الديوان ، نحو قولها من قصيدة (هاتوا الناي ص15 ):

فهاتوا الناي يا صحبي وغنّوا         فهذا العزفُ يسمعه الحبيبُ

إن وعي القارئ أو السامع للفضاء الدلالي يتجاذبه مؤثران موسيقيان ؛ مؤثر موسيقي ناجم عن إيقاع الشعر ، ومؤثر موسيقي ناجم عن صوت الناي ، وحينما يكون المعنى مقترنا بصوت الناي أو غيره من الآلات الموسيقية فإن يقظة المتلقي للمعنى المراد تتضاعف . ولا فرق بين صوت الناي وصدى اللغة التي تجسد وجدان الشاعرة في قولها من قصيدة (أمطار الخريف ص23 ) :

فهيّا يا حروفَ الوجد نشدو       كما الناياتِ تعزفُ في العلاء 

إن اللغة التي تتشكل منها القصيدة هي إيقاع وجداني قبل أن تتحول إلى إيقاع لغوي ، لذلك جاء الفعل (نشدو ) في قول الشاعرة ليعبر عن حركة الإيقاع الوجداني أو إيقاع المعنى ، وجاء التشبيه في الشطر الثاني (كما النايات ) لتقريب مفهوم الإيقاع الوجداني قبل أن يتحول إلى إيقاع شعر . 

 واللافت أن الصورة الموسيقية تتوزع على حالتين وجدانيتين ؛ حالة التجلي والتأمل والفرح كما بدا في الأبيات السابقة ، وحالة الحزن والانقباض والقلق كما في قولها من قصيدة (أنات الأقدار ص 32 ) :

فكيف النايُ يؤنسنا     وعزفُ الآه كاللهب 

ولا يخفى أن الموسيقى قادرة على التعبير عن المشاعر الإنسانية المتناقضة ، فالآلة الموسيقية الواحدة تعبر عن الحزن والفرح حينما تختلف نغماتها الموسيقية ، كما أن الجمع بين صوت الناي وصوت الآه يفسر كيفية استجابة الإنسان لصوت الموسيقى .

 وفي التصوير الفني تتجلى الصورة البصرية الضوئية ، نحو قولها من قصيدة (شموع التمني ص34 ) :

 تعالَ أضئ هنا شمعَ التمني           فذي أحلامنُا حاء وباء

إن تشبيه التمني بالشمع المضيء يحول الصورة الذهنية التجريدية للتمني إلى صورة حسية مرئية ، ويحفز المتلقي إلى تخيل الصورة التي تحمل دلالات تعجز عنها اللغة المألوفة، كما أن الصورة الضوئية لشمع التمني ترسم فضاء غير محدود من الدلالات والمشاعر . 

ويحفل الديوان بالصورة الشمية ؛ فالرائحة حافز حسي يُسهم في تنبيه المتلقي لمعان في البنية العميقة للقصيدة ، وقد تتفوق الرائحة على الصورة المرئية في بعض المواضع من الديوان . ويشغل لفظ العطر حيزا لافتا في قصائد الشاعرة التي اختارت عنوان (هذه عطوري ص 40 ) لإحدى القصائد التي تقول فيها : هذه عطوري في سطور رسالتي            طارت بشوق في يد الأقدار 

فالعطور هنا ترمز إلى اللغة التي تُضمر كتلة من المشاعر التي تثير المتلقي كي يفكك دلالاتها . وفي قصيدة (أيها الساقي ص44 ) يُصبح العطر دليلا وملهما للقلب في قولها :

إني أتيتُ يقودني عطرُ الربى           والشوق من عينيكَ سهما يَرسلُ   

 

 توظيف أدوات الكتابة

تبرز في قصائد سوسن داود تقنية توظيف أدوات الكتابة توظيفا وجدانيا ؛إذ إن الحروف واللغة والسطور ليس أدوات للكتابة بل هي شريك وجداني للشاعرة في التعبير والوصف والانفعال . ويشعر القارئ أن أدوات الكتابة عند الشاعرة إنسان يتفاعل وينفعل ، ولهذا جاءت إحدى قصائد الديوان بعنوان (نزف قلم ص112 )  التي تستهلها بقولها : 

 يا نزف أقلامي وسطر دفاتري         إني سأشكو للهوى أمجادي 

فطقوس الكتابة  متعة ومحنة تستنزف نبض القلب، وتعتصر زلال الذاكرة ؛ فهي متعة لأنها تجسد أعماقنا وأحلامنا ، وهي محنة لأنها استحضار للحالة الوجدانية المعتقة في قوارير الذاكرة ، وهي محنة أيضا ؛لأن كثيرا من المعاني والمشاعر لا تجد لها مفردات وتراكيب لغوية قادرة على حمل الشحنات النفسية والتوتر الدلالي ، فحينما نكتب نتوهم أننا كتبنا بدقة ما نشعر به في أغاب الأحيان .

 وفي قولها من قصيدة ” لم السكوت (ص69 ): 

هذا الحنانُ وذا سطري ألوذ به      هذا الوفاء كما حرفي ومنطلقي 

يصبح السطر ملاذا ، والحرف وفاء، وهذا يعني أن كتابة الشعر انفعال واحتراق ، وأن القصيدة نزيف قلب ومحراب حلم وليست مجرد لغة وتراكيب موزونة ، وأن السطر لم يعد حيزا للكتابة ، وإنما السطر حيّز لتجليات البوح ، ومستودع للتباريح والترانيم . وفي قصيدة ( صدى ظنوني ص94 ) تبدو السطور مستودع أسرار وأحلام في قولها :

أفتّشُ في سطوري عن أمان       على شطآنه تغفو سنيني

  وفي قصيدة ” أنين الصبر ص88 ” تناجي الشاعرة الحبر والحرف والسطر كي تسعفها على التعبير عن دفقة وجدانية معتقة في جرار الانتظار في قولها :

متى يا حبرُ تسعفني حروفٌ          ويكتبُ ليلَها سطرٌ حبيبُ 

وتؤكد هذه المناجاة التي تقترب من الاستغاثة المقرونة بالاستفهام (متى يا حبرُ) أن الشعر إلهام  لا أحد يستطيع تحديد زمن ميلاد القصيدة ، فزمن الإبداع لا تضبطه عقارب الساعة . ويكشف تعبير الشاعرة عن إشكالية هامة في الإبداع الشعري تتمثل بزمن الإبداع وميلاد القصيدة ؛ ففي بعض الأوقات يكون ميلاد القصيدة سلسا سهلا عفويا ، وفي بعض الأوقات يكون ميلادها عصيا ومستحيلا ، وهنا يكمن الفرق بين شعر سلس صادق مثير ومؤثر ، وشعر متكلف مصنوع خال من الإثارة والتأثير. واستئناسا بما تقدم ندرك كيف تكون كتابة الشعر محنة ومكابدة في قولها من قصيدة (عتاب الليل ص123 ):

هذي الحروف وقد همّتْ تنازعني             فيها أهيمُ لدى الوجدان ينتحبُ

أظلّ  أرسمُ للأيام صورتَه                    ويرتجي وجهَه عمري ويرتقبُ

وتعبر الشاعرة عن سعادتها حينما يتحقق الحلم باللقاء على السطر في قولها في قصيدة (محبة ص126 ):  كتبتُ وحبرُ الوجد للسطر راحةٌ             ولكن حبر الودّ إيجاده صعبُ 

وقد جانستْ الشاعر في لفظي الحبر في الشطرين ؛ فحبر الوجد في الشطر الأول أفضى إلى راحة نفسها وسكينة قلبها ، لأن الحرف واللغة طاوعتْ مشاعرها ، أما حبر الود في الشطر الثاني الذي قصدت به اللقاء فإيجاده صعب ، وتثير الشاعرة في هذا البيت قضية حاجة الإنسان إلى التعبير عن أفكاره وعواطفه ، وكلما بقيت هذه الحاجة حبيسة الصدر والقلب زاد توتره واحتقانه ، وكلما أفلح في التعبير والتنفيس هدأ توتره وسكنتْ أعماقه .

ولعل أبرز ما يجسد العلاقة الوجدانية بين الشاعرة وأدوات الكتابة قولها : 

نسجتُ ثوبَ يقيني فوق أخيِلَتي            خيوطُه الحرفُ والأحبارُ والورق 

 

ملامح التأثر 

  تشير قصائد عدة إلى أن الشاعرة قارئة للشعر العربي ، وأن بعض الشعراء قد أسهموا في صقل تجربتها الشعرية . ومن المعلوم أن تأثر الشعراء بعضهم ببعض مسألة مألوفة في الإبداع الإنساني على اعتبار أن أي إبداع يعد إبداعا جماعيا يُنتجه فرد واحد ؛ وذلك أن الجينات الإبداعية تتوارثها الأجيال ، وبعض تلك الجينات يُنسى أصله ، وبعضه يسكن ذاكرتنا . ولا شك أن تأثر الشاعرة ببعض الشعراء يكشف عن ميول الشاعرة وذوقها في الاختيار ، ويكشف ذلك عن النسيج الفكري ، ومن المواضع التي تجلى تأثر الشاعرة بالشعراء الآخرين ، قولها في قصيدة “سناء الفجر ” (ص30):

أعطني الناي وغنّ يا فتى        واسقني كأس المحيّا ملهمي 

من الواضح أن قول الشاعرة يحيلنا إلى قصيدة جبران خليل جبران التي يقول فيها :

أعطني الناي وغن فالغناء سر الوجود      وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود

إن تأثر الشاعرة سوسن داود بالشاعر جبران خليل جبران لا يُسمى تقليدا ؛ إذ إن هنالك فرقا كبيرا بين التقليد والتأثر ، لأن التقليد لا يؤدي إلى الإبداع والابتكار ، أما التأثر فيتجاوز ما قيل من شعر إلى ابتكار دلالات جديدة ، وإبداع صور فنية لم ترد في النص المتأثر به . كما أن تأثر الشاعرة بجبران يكشف عن عشقها للطبيعة كما عبر عنها جبران ، ولا يخفى على القارئ أن الطبيعة في ديوان ” مزن الغياب ” تشكل مفصلا دلاليا لافتا ، وفضاء وجدانيا ساحرا ، فقصائد الديوان اتخذت من مفاتن الطبيعة للتأمل والتخيل والبوح ، ولا غرابة في هذا الترابط ؛ لأن سر الإبداع عامة والشعر خاصة يكمن في التماهي والتوحد مع الطبيعة .  وفي قصيدة (دفء الأزل ص74 ) تحيلنا الشاعرة إلى قصيدة ” الأطلال ” الشهيرة للشاعر إبراهيم ناجي التي غنتها أم كلثوم ، فقول الشاعرة :

أين من عينيَّ حبيبٌ                       يشبه البدر المطلْ // يذكرنا بقول الشاعر :

أين من عيني حبيب ساحر               فيه نبل وجلال وحياء

ويجسد هذا التأثر الثقافة السمعية للشاعرة التي يبدو أنها تحرص على الاستماع للفن الأصيل الذي  يجمع بين جلال المعنى  وأصالة الإيقاع . 

الذاتية في ديوان ” مزن الغياب “

يكاد مضمون قصائد الديوان يقتصر على الفضاء الوجداني للشاعرة ؛فالقصائد مرايا يتجلى فيها مزيج من المشاعر الذاتية تتوزع على الحزن والترقب والحلم والأمل . ولم أجد في الديوان قصيدة تصور هما جماعيا وطنيا أو إنسانيا سوى قصيدة واحدة موسومة بـ ” أنت الحب يا وطني (ص116 ) . وكم تمنيتُ على الشاعرة أن تجمع بين التعبير عن الفضاء الوجداني العاطفي والفضاء الوطني والقومي والإنساني . وربما تتحقق هذه الأمنية في القصائد القادمة . وينبغي ألا يغيب عن أذهاننا أن التعبير عن الوجدان الذاتي والعاطفة الشخصية لا ينفصل على الهم الإنساني ؛لأن القارئ يشعر بأن الوصف الوجداني بما يشتمل عليه من آلام وآمال يعبر عن وجدانه وأحلامه وآلامه ، ولكن وظيفة الشعر ينبغي أن تتجاوز الدائرة الذاتية إلى الدائرة الجماعية ، كما أن الشعر ليس نزيف ألم ولا رحيق حلم أو نسائم قلب فحسب ، بل إن الشعر تحريض على التغيير وثورة على الفساد بهدف الانتصار لمنظومة القيم الإنسانية . ويرى بعض النقاد أن الفن (الشعر ) وُجد من أجل الفن ذاته ، ويرى بعضهم أن الفن وجد من أجل الحياة …ولا أدعو هنا إلى تبني رأي دون غيره ، وإنما أدعو للجمع بين المذهبين أي أن نكتب الشعر من أجل التعبير عن مكنونات الذات ،  وأن نكتب الشعر أيضا للإسهام في التغيير المنشود .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى