الأنوثة الطاغية ..جديد الكاتب السوري لؤي طه

الجسرة الثقافية الالكترونية-خاص-
إذا دخلتَ خلسة، تمشي على أطراف الهدوء. تتسلل من شرفة العقل الشرقي؛ تلك الشرفة التي نسيَّ أصحابها الشرقيون بأن يغلقوها قبل أن يخلدوا في سبات السهو السحيق. ثم رحت تتجول ما بين الممرات الطويلة، وبدافع الفضول ، تبدأ بفتح الغرف. الغرفة تلو الغرفة، تندهش عندما ترى الصناديق المغبّرة من الأفكار المتكدسة في زوايا العقل الباطن، وتلك الكراكيب العتيقة المبعثرة على بلاطات التناقضات الكبيرة؛ لتبحث عن معنى “الأنوثة الطاغية” وماذا تعني في قواميس الشرق؛ فيصدمك التشابه إلى حد التطابق لشرح الكلمة. والأغرب من هذا بأن توحد المعنى، تجده حتى لدى الكتّاب والأدباء والكثير من الشعراء؛ حينها يرهقك الوقوف فتتخذ لك مِقعداً في إحدى زوايا العقل، لتقرأ كيف يفسرون هؤلاء معنى الأنوثة.
في قواميس بائسة الشرح. توحي لكَ من الورقة الأولى؛ بأن أصحابها الذين قاموا على تفسيرها هم قومٌ سذج. إذ يقولون في شرح الأنوثة: أنها امرأة ذات جسد بارز التفاصيل، تجعل من لعاب رغبتك يسيل دون أن تتكلم. وإذا مشت ترتجف الأرض تحت قدميها من هول ما عليها من فتنة وإثارة؛ وليست السذاجة في المعنى الذي تم شرحه من قبل هؤلاء الفرقة؛ لكن الحماقة الكبرى بأن هناك ثلة من النساء قد صدقنَّ هذا التفسير وعملنَّ به. عندها قامت الثورة السينمائية بإنتاج أفلام تجسد هذا النوع من الأنوثة، من خلال الأفلام العربية والتي جسدتها بشراسة ” نادية الجندي” و ” نبيلة عبيد” و ” مديحة كامل” وقد استثمرت المخرجة المتمردة ” إيناس الدغيدي” هذا النوع من الولع في أفلام عدة، كانت صرخة جريئة وخروج عن النص الأخلاقي. وكان للممثلة السورية ” إغراء” الدور الكبير في حقبة من الزمن العربي. وباتت دور العرض تضج بأولئك الذين يعتنقون عبادة الجسد المثير على أنه المعنى الأقوى لشرح الأنوثة الطاغية.
وفي قواميس شرقية في مزيج خفيف من ثقافة أجنبية، ذات أغلفة أنيقة، بأوراق ناعمة وملّونة، حيث الكلمات مكتوبة بخط ارستقراطي الحروف، وحبر مذّهب، أصحابها من الفئة المعتدلة في تفسير الأنوثة. هم ليسوا بالمتطرفين والمتعصبين للجسد بشكل مباشر، يذهبون في شرح الأنوثة: “هي امرأة لها جاذبية وبريق يشع من شباك عينيها، تنتقي لحضورها ابتسامة صغيرة مفتعلة بذكاء؛ كعزف هرموني يرافق إيقاع كعب حذاءها المدبب، تختار لكلامها نبرة هادئة. وهم يعتبرون بأن تلك المقدمات وطريقة حياكتها لثوب الوهلة والانطباع الأول. هو ما يجعلها تمتلك أنوثة طاغية. وأخيراً هم يختمون الشرح بأنها تشعل الرغبة لكن على نارٍ هادئة. وهذا يحدث عادة في الطبقات المخملية المترفة، إذ أنهم ينفقون المال والهدايا الثمينة والوقت، ويتلذذون مع هذا النوع من النساء، إذ أنهم يشعرون بنشوة نرجسية؛ كلما رفعت تلك المرأة من منسوب غرورها وتمنعها والتعالي. وبهذا هم يلتقون مع الفئة الأولى حيث يجدون بأن الأنوثة الطاغية في الإثارة. وهذا الشكل من الأنوثة أيضاً يمارسنه بعض الفنانات وغالباً يفعلنه المطربات والراقصات اللواتي اتخذن من أشكالهن وأجسادهن المثيرة سواء بشكل طبيعي أو من خلال اللجوء إلى عمليات التجميل وبهذا الشرح والتقييم يتشوه معنى الأنوثة بحيث يصبح هو المقياس الدارج والمعيار الذي قد يدفع بعض النساء العاديات إلى ارتكاب نفس الحماقة في تشويه الصورة والمعنى للأنوثة الطاغية.
وكذلك نقرأ مثل هذه التفسيرات والشروح لمعنى الأنوثة، في أغلب الروايات والقصص والقصائد. إذ يعتمد الكاتب أو القاص والشاعر إلى تجييش حروفه وصوره ومعانيه نحو الجسد، وإبهار غرائز القارئ وليس عقله؛ متناسياً ومتجاهلاً القيمة الروحية وعمق النظرة في وصف الأنوثة الحقيقية والقيمة الإنسانية للمرأة.
كما أن الرجولة هي ليست في البنية القوية والوسامة الشديدة، وليست في القساوة وسادية التعامل، والديكتاتورية اللفظية؛ كذلك فإن الأنوثة مطلقاً هي ليست في الرقة والنعومة كما هو متعارف ومعتمد ومختوم في أذهان الشرق.
إن كانت الأنوثة كما تعتقد مذاهب الرغبة، هي جسد وإثارة فإن العين مع مرور النظر والاعتياد، تمل من أجمل جميلات الكون. وإن كانت الأنوثة في الجمال الظاهري فهل هذا يعني أنه علينا أن نحرق كل النساء اللواتي لم يكن لهن حظ الجمال الخارجي؟
إن مفهوم وشرح معني الأنوثة يحتاج إلى صياغة أخرى، وإلى إعادة نظر في تفسيره. وأن لا نقصي الأثر الروحي كعامل أهم وأقوى في معنى الأنوثة. قد يكون أمراً موجعاً حين ينظر غالبية الرجال إلى المرأة على أنها مصدر إثارة حسّية واشباع رغبة البصر والغريزة؛ لكن ما هو موجع أكثر حينما ترضى المرأة لنفسها مثل هذا الدور الضيق وتتحول إلى “شهرزاد” تنفق وقتها وعقلها فقط لترضي سمو الرجل “شهريار”.
عندما تؤمن المرأة بما تملك وتتكئ على جمالها الداخلي، وتسعى جاهدة إلى تجميل فكرها، وحقن عقلها بما يفيدها؛ وإن لم يُعجب ذلك رغبات وأهواء الكائن الشرقي؛ حينذاك سوف تصبح المرأة مدرسة عظيمة من مقاعدها، تنشأ أجيالاً بعقول متعافية، بلا عقد وبدون إرهصات نفسية وفكرية.
الأنوثة الطاغية ليست امرأة فائقة الجمال، باذخة الإثارة كعارضة أزياء تحرك طاحونة الحواس، أو كعاصفة تثير فيك غبار الغرائز وزوبعة من شهوة. الأنوثة هي امرأة تحتوي كل ما فيك، تُحبك أنت كما أنت، بشكلك البسيط وحالك المتواضع. تسهر معك إلى وقت متأخر من العمر ترتب لك أغطية أحلامك، هي امرأة ثلاثية العاطفة. تصير لك أمٌّ إذا الحياة غيبت عنك أمك. حبيبة تعشقك، تعفو وتغفر لك هفواتك وخطاياك، يغريها ما في قلبك من نبض لا تبحث في جيوبك ولا تقايض ابتسامتها على حجم هداياك. هي امرأة تكون لك مأوى وسكن ووطن دافئ. فلا تنظروا إلى الأنوثة على أنها كومة قش من رغبة؛ فلا تحرقوا وطن الأنوثة بأعواد ثقابكم!