علمانية المسيري وحداثة تورين

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 

نذير الماجد 

 

بين المفكر المصري عبدالوهاب المسيري، والسيسيولوجي الفرنسي آلان تورين أكثر من توارد أفكار واتفاق صدفوي في الانشغالات الثقافية والفكرية. الشيء المؤكد أن أحدهما تأثر بالآخر. ولو أن هوة شاسعة تفصل بينهما هي نفسها المسافة التي تفصل بين مثقف نوستولوجي يجترح معجزات النقد لكي يتقهقر، لكي يستعيد لحظته الذهبية المشتهاة، إذ يضفي على النقد وظيفة ماضوية تحيله إلى متكأ ومسوغ سلفي للرجوع نحو الوراء / الماضي/ السلف / الإسلام الجوهراني المحدد كهوية ثابتة متعالية على التاريخ. وبين مثقف ينتمي إلى ذاته بقدر ما تشغله هواجس ما نسميه “نقدا ثوريا” يمارس التفكيك لا لكي يعود إلى الوراء بل لكي يتجاوز. وشتان بينهما.

 

صدعوا أدمغتنا بعلمانية المسيري الذي يطيب له التمييز بين علمانية جزئية بصفتها تمايزا مشروعا وضروريا بين الدين والسياسة من جهة، وعلمانية شاملة تعرف بصفتها ذلك التمييز العدمي بين الإطار الحضاري وإطار القيم والمرجعية المتعالية من جهة أخرى. وكل ذلك تمهيدا للمتعالي، حيث تبدأ رحلة النقد باستدخال التمييز إلى قلب العلمانية والحداثة لتنتهي بمجزرة: لم يكن بوسع المسيري لتحقيق نتيجته سوى التقويض الكامل للحداثة برمتها.

 

إن الرجل الذي كان إخوانيا ثم يساريا ماركسيا ثم استقر أخيرا بعدما أنهكه الرحيل ليصبح مفكرا إسلاميا، هذا المفكر لا يبدو أنه اكتشف العجلة حين ندد بالحداثة أو “العلمانية الشمولية” كما يفهمها ويسميها.

 

الحداثة مأزومة، الحداثة متحللة ومتفسخة، الحداثة تدمر ذاتها. تلك بدهيات لا يضيف جديدا حين يسردها المسيري ويبرهن عليها في كتبه. الحداثة استبدلت الشكل الديني للاغتراب والهيمنة والتنميط والخ، بشكل أكثر شراسة وعنفا وعدمية: الشكل العلماني الذي من شأنه أن يقيم عقلا أداتيا عوض العقل الموضوعي – كما تخبرنا مدرسة فرانكفورت – واستلابا يتمظهر في حمى الاستهلاك وآليات التنميط الاعلامي والدعائي عوض ذاتية مدعاة.

 

إن الحداثة تؤسس أساطيرها الخاصة وتدجينها الخاص ولاهوتها الخاص وشمولياتها الخاصة. هذا لا خلاف عليه. لكن المسيري يدعونا بعد كل تلك الجعجعة النقدية إلى هوية تراثية ليست أكثر تماسكا. كما لو كنا بإزاء حتمية تؤثث خطاب المسيري: تهافت الحداثة يقود مباشرة إلى الإسلام، كأن هناك علاقة سببية بينهما، فلكي نتجاوز تلك الحداثة المفخخة بالأزمات والأعطاب والإشكاليات، لا بد من المغادرة والخروج من الحداثة إلى ما قبلها – وليس إلى ما بعدها – حيث سيكون الإسلام وحده هو الحل.

 

المسيري العقلاني يقوض ذاته حين يقوض الحداثة، ثمة مصادرة وفجوة وفراغات في الحل الخلاصي، تحيل الحتمية “المسيرية” إلى عدمية: كيف يمكن استبدال ما هو كوني (الحداثة العقلانية) بما هو خاص (الإسلام) دون إعدام العقلانية نفسها؟

 

نعرف أننا جميعا حداثيون بشكل أو بآخر، الحتمية تكمن في الحداثة نفسها، “إننا نركب جميعا سفينة الحداثة” ونعرف أيضا أن نقد الحداثة يحررها.

 

لا يزال تعبير الفيلسوف العقلاني هابرماس يحظى براهنيته الكاملة: الحداثة مشروع لم يكتمل. لقد غاب عن تصور المفكر المسيري أن الحداثة (ولنقل العلمانية الشمولية كما يسميها) تصور نقدي بالأحرى. الوفاء للحداثة يعني مناقشتها ونقدها، الحداثة هي النقد، ما إن تبدأ الحداثة حتى تتجاوز ذاتها، تتسارع وتصبح “ما بعد حداثة” وما بعد ما بعد حداثة” .. الخ.

 

يحسب للمسيري من بين كل نتاجاته الفكرية أنه أنجز “الموسوعة اليهودية” أما “العلمانية الشمولية والعلمانية الجزئية” فمحض سفسفطة تتوسل بجهاز نقدي ضخم لا يسفر إلا عن إثبات ما هو ثابت واجترار ما هو مكرر ومستقر كأنه الأبدية.

 

ثمة تماهيات كثيرة بين “نقد الحداثة” لآلان تورين الذي نشره عام 1992 بعد انتهاء الحرب الباردة و”العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة” الصادر عام 2010 لعبدالوهاب المسيري. كلاهما يدين التنميط والتشييء والترشيد العقلاني الذي حلله وأشاد به ماكس فيبر، غير أن المسيري يفعل ذلك لصالح مبادئ متعالية وميتافيزيقية كالإيمان والروح، أما “تورين” فلصالح الذات أولا وأخيرا “الإنتاج الحر للنفس الذي يقود إلى تحقيق الذات”.

 

يقول تورين: “لا يتعلق الأمر برفض للحداثة في جميع الأحوال، بقدر ما يتعلق بمناقشتها (…) إن نقد الحداثة لا يؤدي دائما إلى رفضها”.

 

نقد الحداثة عند تورين ليس رفضا لها – كما هو حال الفلسفة “البعدية” منذ ماركس ونيتشه وحتى فوكو ودريدا وهابرماس – بل إنه يتحدد هنا بصفة خاصة باعتباره جهدا معرفيا لاستعادة المنسي، لإعادة اكتشاف الحداثة مجددا، حيث يتعين إعادة بناء الحوار بين “العقلنة” وما أسماه تورين – بحسب ترجمة عبدالسلام طويل – “التذويت” وهي الأطروحة المركزية في مناقشة تورين المعمقة للحداثة.

 

ولكن المسيري استبدل النقاش المبتغى والممتع فكريا بدعوة تكاد تكون وعظا لتدمير منجزات الحداثة انتصارا للذات التراثية والماضي.

 

إن المسيري مثقف نوستالوجي من الطراز الأول!

 

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى