شعراء قريبون جدا على «فيسبوك»… محمد علي الرباوي نموذجا

الجسرة الثقافية الالكترونية
محمد بنلحسن
إذا كان هناك شعراء يفضلون الانزواء في أبراجهم العاجية غير آبهين بأحوال المتلقين، ولا مكترثين بمدى تفاعلهم مع خطاباتهم الموغلة في الإبهام، الغارقة في الغموض وكأننا بهم يرددون قول البحتري:
عليّ نحت القوافي من معادنها
وما عليّ إذا لم تفهم البقرُ
فإننا بالمقابل نجد شعراء آخرين حريصين كل الحرص على الاقتراب جدا من قرائهم ومعجبيهم؛ لاعتقادهم في ما يبدو، أن اكتمال الشعرية في نصوصهم الإبداعية، رهين بمدى تجاوب القراء مع النص القصيدة، وفهمهم مقاصد المبدع، والإحاطة بجميع الملابسات التي تحيط بالشاعر، والتي يمكن أن تتحكم في تلابيب القصيدة. لم يعد لقاء الشعراء بالقراء والجمهور، وعموم المتلقين، متاحا من خلف الورق فقط، الذي كان يقتضي من القراء انتظار صدور الدواوين الشعرية من المطابع، أو خلال الأمسيات الشعرية الموسمية؛ حين ينبري الجمهور منصتا للقصائد على لسان الشعراء… لقد أصبحت اللقاءات اليوم مع انتشار قنوات التواصل الاجتماعي، تتم في كل يوم ودقيقة وثانية ، بفعل سرعة التواصل، ما عاد القارئ اليوم، يعد الأيام والشهور، ليتعرف جديد الشعراء الذين يبادر كثير منهم بنشره على الفور من خلال صفحات الفيسبوك.
إن هذا التطور التكنولوجي الذي أفاد منه شعراؤنا، أو بعضهم على الأقل، قلص المسافة بين المبدعين والمتلقين، وجعل الشعر يعانق آمال الإنسان وآلامه، في كل زمان ومكان ..
الشاعر المغربي المتألق واللامع محمد علي الرباوي، يحتم على متابعه وقارئه على حد سواء، إدراجه ضمن الصنف الثاني من الشعراء. صحيح أن انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، جعل الشعراء والمبدعين على اتصال وثيق، ومكثف بمتلقيهم، لكن هؤلاء الشعراء ليسوا سواء من حيث القدرة، والرغبة على الحضور في يوميات جمهورهم ناشطي الفيسبوك.
الشاعر المبدع محمد علي الرباوي حاضر بكثافة على صفحات البحر الأزرق؛ سواء بنصوصه الجميلة الآسرة، أو بأخباره السارة، وجولاته السياحية الآخاذة التي يعيد عبرها قراءة الكون، وتدبر آياته، ومكوناته ومكنوناته، برؤية شاعر يعشق الخيال، ويصر على امتطاء صهوة التخييل، وكأننا بالشاعر دائما وأبدا في حضرة القصيدة لا يبرح محراب الشعر في كل حركاته وسكناته. الشاعر محمد علي الرباوي في رحلته الأخيرة التي يمكن أن نطلق عليها الرحلة الإفرانية، كان حريصا على وصف ارتباطه الجمالي والشاعري بالمكان، موطن الطبيعة الغناء، وسحر الخضرة الفتان، وخرير مياه رقراقة، ينافس بريقها اللجين لمعانا وبياضا.
لذا ألفينا الشاعر لا يفوت أي فرصة حميمية تجمعه بفضاءات إفران الفاتنة، من دون إشهار عدسة محموله من أجل توثيقها بعدسة علمها، من دون شك، أن تتورط في عوالم الشعر، وإدراجها على صفحات البحر الزرق مرفوقة بوصف شاعري، يخلع عليه الشاعر أحاسيسه الجياشة التي تتدفق متزاحمة على فؤاد الشاعر في تلك اللحظات، يقول محمد علي الرباوي الشاعر، عن محمد علي الرباوي الإنسان، في إحدى تدويناته التي تؤرخ برهة الحضور في المكان الذي ظل يحتضن قامة شعرية أكبر من الوصف: «أمام باب منزله في مدينة أفران، في عز الصيف يتأمل الثلج المقبل من كهوف المدينة. هذا الثلج مر ذات صباح بهذه العتبة ونثر بياضه في لحية صاحبنا الغارق في حلم لا ينتهي».
هنا يقرب الشاعر محمد علي الرباوي قراءه، ومتابعيه، وأصدقاءه، وكل جمهوره الافتراضي، السابح في مياه البحر الأزرق، من محمد علي الرباوي الإنسان… الأهم هنا هو أن الشاعر يضعنا في جغرافية المكان البارز من الصورة الملتقطة كما وثقتها عدسة المحمول، لكنه بحدسه، وحسه الشاعريين، يفر من قيود الزمن الذي انفلتت من عقاله ألوان الصورة المعبرة، ليمخر بالقارئ عباب زمن سيأتي، وفي الحيز نفسه عباب زمن مضى!
هو محمد علي الرباوي ذاته لا ينبئك بما تؤشر عليه اللحظة المقتنصة عبر عدسة المحمول في فصل الصيف، بل يسافر بقارئه في كهوف الزمن غير المرئي، مطلا بحسه التخيلي، وفاعلية مخيلته التي لم يزدها طول العمر إلا عمقا وقوة، على تخوم فصل الشتاء المقبل محملا بالثلوج، كأننا بالشاعر المترع بالخيالات الخصبة، غير قادر على وصف الزمن الذي يراه عامة الناس، ويلمسونه بالعين المجردة… هذا سلوك وطقوس الشعراء الكبار ذوي الرؤى البعيدة النائية عن عوالم الحس، يرون ما لا تراه العيون المجردة، ويتحسسون الآتي المطل على شرفات المستقبل البعيد…. إنها قمة المحاكاة المبدعة التي وصفها أرسطو في كتابه فن الشعر، حين يجنح المبدعون من الشعراء العباقرة، لا إلى وصف ما هو كائن وحاصل، بل إلى تخيل ما هو غير مرئي، التي تكمن فيه أسرار الجمال الفتان.
الشاعر محمد علي الرباوي ببراعته اللغوية، ومهاراته التخييلية، استطاع المزج بين ثلاثة أزمنة في جملة موجزة؛ زمن حاضر؛ وصف حاله بباب منزله بإفران، زمن سيأتي، هو زمن نزول الثلج في فصل الشتاء، ثم زمن سابق في الماضي حين مر الثلج ذات صباح على منزل الشاعر في إفران. ثم يختم الشاعر وصفه لحاله بعدما مر عليه الثلج بالقول:
«… هذا الثلج مر ذات صباح بهذه العتبة ونثر بياضه في لحية صاحبنا الغارق في حلم لا ينتهي».
محمد علي الرباوي يبوح بسر، لا يمكن عده سرا؛ لاسيما وهذا الكلام صادر عن شاعر، والشعراء العظام معروف عنهم انغماسهم في عوالم الأحلام، التي تهبهم الطاقة الخلاقة التي تساعدهم على السفر للأقاصي النائية، حيث يبصرون ما لا يبصره جميع الناس، ويحسون بما لا تحسه العامة. الشاعر بختمه وصفه السابق، وهو جالس أمام عتبة منزله بإفران الساحرة صيفا وربيعا وشتاء، بعبارة « الغارق في حلم لا ينتهي «كأننا به يصر على أن يبعثر فهم قارئه، وأن يربك إدراكه للملفوظ السابق… الشاعر يتبرأ من أي تأويل قد يسافر بالقارئ، أو المؤول، إلى ضفاف معان لم يقصدها بالتعبير، وهذا ما يجعل المتلقي مخذولا مثل القابض على الماء الذي خانته فتحات ما بين الأصابع.
المصدر: القدس العربي