محنة الهوية

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

علي حسن 

 

رغم كلّ اليقين به، يظل الموت غرائبيا، وفاجعا.. فالكل يقفون عند حافاته: الملوك والشعراء والصعاليك وأمراء الجماعات وأمراء الشعر… وأحسب أن رحيل الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد يضعنا عند تلك الحافات المتساوية، فلن ترافقه صناديق الكلام، ولا أبهة المجد، ذهب الى الموت وحيدا مثل ظله…

قد يكون صعبا الحديث عن عبد الرزاق عبد الواحد من دون مقاربة تحولات حياته العاصفة، تحولات الشاعر الشيوعي، والشاعر التائه، والشاعر القومي والسلطوي، إذ ظلّ مسكونا بالقلق الملتبس، القلق الذي حاول أن يستعير مقاربته من شخصية (الحر الرياحي) الشهيد الكربلائي الواهب والمنحاز لوعيه للموقف الحسيني، لكن عبد الواحد تعثر في منتصف الطريق، إذ ظل (مُلك الري) أكثر بهاء له، وصارت الحرب وذاكراتها أكثر إغواء، ورمزية السلطة بيتا للاستعراض الشعري الذي يتشهى، ولاستعادة صورة الأب الغائب… ليس يسيرا تجاوز شعريته، أو إخراجها عن لعبة المغامرين الكبار، أو حتى تجريد حضوره في ذاكرة الحرب فقط، فهو ينتمي إلى مرحلة التأسيس الشعري المغامر، ولجيل حاول أن يبتكر فضاء آخر للقصيدة التي كتبها شعراء الجيل الضائع أمثال محمود البريكان وسعدي يوسف ويوسف الصائغ، إذ بدت قصيدته أكثر نزوعا للغناء والتأمل، وأكثر انشغالا بالبحث عن هوية نافرة للجدّة، وللتموضع خارج سياق الموروث في بلاغته وسطوته ورموزه الكبار. استغرقه البحث عن المعنى، مثلما ظل هاجس التغاير يقارب قاموسه البلاغي والغنائي، حتى بدت قصيدة (الصوت) التي انشدّ الى نظامها الايقاعي تعبيرا عن هذه المقاربة، والسكنى عند خفتها الشعرية، مثلما كانت تعبيرا عن لحظة اشباع متعال، تعويضي لذاكرة الفقر الجنوبي، ولذاكرة الصائبي المفجوع في لاوعيه بمحنة الهوية…

عبد الرزاق عبد الواحد واحد من أهم صنّاع قصيدة الصوت العرب، إذ هي قصيدة فرادته، ونشيده الطري في مجازه واستعاراته، تتكشف فيها براعته في اصطياد الفكرة، وفي التلوين التصويري، وفي التخفف من حدّة البلاغة، وفي كسر ظاهرة الفحولة في نظامها، وكأنه يحاول دائما أن يبتكر له مكانا امام ظاهرة الجواهري الكبير، واعتقد أن قصيدة الامام الحسين التي كتبها عبد الرزاق عبد الواحد، كانت مواجهة (لاواعية) مع قصيدة الجواهري عن الامام الحسين، إذ سيجد قارئ القصيدتين التشاكل الاسلوبي بينهما، وغْلبة النزعة الغنائية عند عبد الرزاق عبد الواحد، مقابل الحضور البلاغي الفخم عند الجواهري.. لم يشأ لعبد الرزاق عبد الواحد أن يكون شاعر سلطة، بقدر ماكان يبحث عن الرمز، وهذا البحث هو من وضعه في سياق صدام حسين وطبيعته الطاغية، إذ كان يكتب عنه فقط، فهو لم يكتب عن سلطة حزب البعث، ولا عن رموز سلطته الآخرين، وحتى قصيدة الحرب التي اصطنع لها قاموسا صوتيا، تجوهرت حول ظاهرة الرمز، واستغرقت حمولاته الرمزية ليس عبر التاريخ الذي يعرفه جيدا، بل عبر مناورة أتقن لعبتها بمهارة وبحذاقة الشاعر الذي يهرب الى رمزه المشتهى…

كتب عبد الرزاق في المسرح وفي أدب الأطفال، إذ تسنم مسؤولية الإدارة العامة لثقافة الأطفال في العراق، وكتب العديد من أغاني الحرب وباللهجة الشعبية، والتي اغتنت باستعاراته المعروفة، لاسيما الاغنية المشهورة (لا والله والعباس) وهذا مايسبغ على حياته الكثير من التناقض، والكثير من الغموض، رغم أنه لم يحظ بقراءة نقدية وافية لتجربته الشعرية التي تمتد من خمسينيات القرن الماضي…

علي حسن الفواز

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى