فاطمة المرنيسي… شجاعة البوح في المجتمع البطريركي

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

عبد العزيز جدير

 

 

رحلت يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني عالمة الاجتماع والكاتبة فاطمة المرنيسي (ولدت سنة 1945) في مدينة الرباط. عرفت كاتبة تناصر قضايا النساء، لأنهن الحلقة الضعيفة في المجتمع كالأطفال، وتنتقد النزعة الذكورية المهيمنة على المجتمعات العربية. وتزرع الآمال في وسط الشباب وغير المتعلمين أيضا. 

قوة الشخصية ورهافة الروح

تعرفت على فاطمة حين استضفتها إلى حلقة في إذاعة طنجة حين صدور أحد كتبها، منتصف التسعينيات. قالت بكل تواضع، ونحن نحدد الموعد «إنني أسهر معك كل ليلة ثلاثاء…»، ثم دعتني لزيارتها في بيتها، وألحت أن أنظم إلى جمعية (السينيرجي

 

سيفيك، التآزر المدني) التي كانت ترأسها. خلال زيارة لها إلى مدينة الصويرة تعرفت إلى الركراكية، رسامة فطرية. رأت فيها طموحا متقدا ولا أحد يشجعها، احتضنتها وكلفتها بإنشاء جمعية نسائية (فهي تؤمن بالعمل الجماعي) من الرسامات المحليات وساعدتهن للتواصل مع نظيرات لهن خارج البلد، فأصبحت الركراكية اسما معروفا في أوروبا والخليج. رحلت الركراكية فطرحت عليّ فكرة الكتابة عن تجربتها الحياتية.. ولما أوشك الكتاب على النهاية رغبت في أن أطرح عليها أسئلة عن الركراكية، ترقرقت عيناها بالدموع وقالت: لا أستطيع الحديث عنها، فهي بمثابة أمي. قوية الشخصية هي، ولكنها روحها مرهفة.

ذات لقاء للجمعية، حضرت ربيعة بنزكري، زوجة الراحل إدريس بنزكري، رئيس هيئة الإنصاف والمصالحة، ومهندس المصالحة في المغرب، وكانت فاطمة تعرف أن بحوزتي حوارات معه، ولكنها لن تشكل كتابا كما كان المقصود. فنادت على ربيعة وقالت لها ساعديه ليتم الكتاب عن إدريس. تلك هي فاطمة كتلة من الاقتراحات، وتحريض على الكتابة، وفكر لا يستريح..

 

فاطمة والنساء.

 

كانت فاطمة المرنيسي أول صوت مغربي أعاد للمرأة صوتها، بل قدم لها الوسيلة لتستعيد صوتها. هي بلسم جراح النساء. عدا الكتب التي خصصتها لموضوع المرأة «هل أنتم محصنون ضد الحريم؟، شهرزاد ليست مغربية، الحريم السياسي»، دفعت عشرات النساء إلى الكتابة بشكل فردي أو جماعي. ومن يعود إلى كتاب عائشة الشنا «ميزيريا» (بؤس)، وهي امرأة اعتنت بالأمهات العازبات، لابد أن يقشعر كامل جسده، وهو يقرأ تجارب وقصص طفلات وشابات كتب عليهن الحمل وهربن من قراهن أو مدنهن خوفا من رد فعل العائلات، وما كان مصيرهن. شكلت فاطمة فريقا لقراءة الشهادات، وإعادة كتابتها، وتصحيحها حتى استوت نصا آسرا. 

ولا يمكن أن تنسى نساء المغرب، المتعلمات والمثقفات، وخاصة من ارتبطن بجريدة «8 مارس» من خلال العمل أو التطوع أو القراءة، أن فاطمة من أشرفت على ورشات لتعليم المناضلات، اللواتي كن خلف المشروع/ الكتابة… كما لا ينسى أحد أن فاطمة كانت وراء إنشاء مجلة «كلمة» التي كسرت عدة تابوهات، من خلال تناول مواضيع مسكوت عنها، وأقلقت راحة بال الدولة فأوقفتها وما استراحت من نتائج صداعها.

 

فاطمة والزرابي

 

اهتمت ذات لحظة بالزرابي (السجاد) 

وصناعها. فقد لاحظت عبر الإنترنت أن زرابي منطقة «تازناخت» تباع بثمانية ألف يورو أو أكثر. وبحثت في الأمر فعلمت أن صناع الزرابي يبيعونها بدراهم معدودات. وتازناخت (الجنوب المغربي) فرضت عليها الطبيعة حصارا شديدا. كانت تعلم أن وزارة الداخلية لا تسمح باتصال علماء الاجتماع والمثقفين بالعامة من السكان، فلو ذهبت إلى عين المكان لأثارت انتباه وحفيظة السلطات المحلية. فاقترحت على مخرج مغربي أن يطلب الترخيص لإنجاز فيلم وثائقي وحصلت على ترخيص مساعدة له. وهكذا اتصلت بالناس، ودرست أحوالهم، وطرحت عليهم تكوين جمعية للدفاع عن مصالحهم. وظلت تؤازر أولئك الصانعات والصناع، ويتردد أعضاء جمعية «السينيرجي» على «تازناخت» لتكوينهم حتى أصبحت الجمعية معروفة عبر العالم.. وكانت تنظم لهم معارض لبيع منتوجاتهم لفائدتهم خلال إقامة ندوات القوافل المدنية أو ندوات «السينيرجي». ولم تعد «تازناخت» الآن معزولة فقد شقت نحوها الطريق، بفضل عناية فاطمة بها لسنوات، وبمبادرة من مستشارة الملك.

 

فاطمة تزرع بذور الكتابة

 

أغلى ما كانت تملكه فاطمة، كانت تغدقه على الشباب خاصة، وهو الوقت. كانت تكرر على مسامعي ليست لي كاتبة خاصة، لتخفف عليها مشاكل مثل إفراغ محتوى آلة التسجيل.. فقد كانت تقدس العمل الميداني، على شاكلة علماء الاجتماع الحقيقيين. تحاور العشرات من الناس من أهل الاختصاص: علماء وأفراد الشعب، فالمعرفة يمتلكها من يعيشها. كما كانت ترهف السمع لكلام العامة وأمثلتهم. لذلك تبدأ كتابها عن «الحريم» بحديث سمعته من فم بقال «لن يفلح قوم تحكمهم امرأة». وانطلقت من الكلام لتبني نصا. تلتقط كلام الناس للاستفادة منه أو إخضاعه للنقد. ولذلك، أيضا، كانت تشجع الشباب على الكتابة. وهكذا أشرفت على عشرات من ورشات الكتابة كانت فاكهتها كلها عدة كتب جماعية في مواضيع مختلفة منها العنف ضد الشباب، والمعتقلون السياسيون في المغرب، والنساء الصحافيات.. كانت تعرف أن الحروف جنود تحرر الأراضي التي احتلتها الظلمة وأرخت سدولها على الإنسان. والكتابة سبيل لنشر المعرفة، والتحرر الشخصي والعام..

 

فاطمة والسرد

 

لما لاحظت فاطمة أن الإقبال على قراءة البحث الاجتماعي ليس سهلا، فكرت في أسلوب يجعل أكبر عدد من الناس يقبل عليه. فاهتدت إلى تذويب البحث في قلب قصة. هي تعرف أن القصة كالحب تسحر جميع الأجيال. وهكذا، كما قالت لنا ذات مرة، تذكرت «حَرْبَا» وهو رجل فرجة شعبية يحكي القصص في فضاء مفتوح في مدينة فاس. كانت المحاولة الأولى مع كتاب «شهرزاد ليست مغربية»، وهو بحث سوسيولوجي مليء بالإحصائيات والأرقام، وصاغته في قالب حكائي، فعرف إقبالا كبيرا، لأن الحكاية فعلت فعل الليالي الألف: الأحداث، والتشويق..

لكن أحداث الخليج، وتدمير العراق من لدن الولايات المتحدة الأمريكية هز فاطمة من الأعماق. قالت يومها، أمريكا تعادي الشعوب التي صنعت التاريخ منذ القدم، وها هي تقدم مثالا آخر. وأعادت تأمل الذات والواقع. ولحظتها قررت أن تكتب «سيرتها» الذاتية. وقد أبانت الكتابة عن إعادة التأمل. وقد فرحت بنجاح السيرة (ترجمت إلى 25 لغة)، وامتحنت من جديد سحر السرد، وفلاح أسلوب «حربا» وأسلوب الحلقة كما تقول. ومن يقرأ «نساء على أجنحة الحلم» يلاحظ أنها تحفل بتوضيحات «للداخل والخارج». فالساردة ترى أن حرية النساء ليست مفهوما غربيا بل هو جزء من تراث عربي ومغربي. فقد كان علماء جامع القرويين يدرسون هذه القيم، وهذا التراث للفتيات. وهي، الساردة، تعلمته على يد هؤلاء وليس الغرب. وقد حمل الكتاب عنوانا أساسيا هو (The Harem Wedding). «الحريم الداخلي» ولكن الترجمة التي تفضلها فاطمة، والدقيقة هي «الحريم الذهني».. الذي يسكن العقل. ذلك أن فاطمة تؤكد دائما على أنه قد لا توجد، أحيانا، حدود ولكنها تسكن الذهن.. وقد عادت خلال هذه المرحلة إلى الانكباب على التراث العربي الإسلامي لاستخراج لآلئه التي تنضح جرأة وإنسانية.

ومع شدة حرصها على دعم وإطلاق المبادرات داخل المجتمع المدني، فقد كانت تأنف من الظهور بوسائل الإعلام (المغربية وغيرها). وكم مرة طلب منها بعض رجال اليسار المغربي أن تحضر إلى جانبهم حلقة برنامج ما فرفضت بأدب. كما كانت ترفض أن تلبي الدعوات إلى خارج المغرب، وتبعث بواحد منا، نحن أعضاء جمعية «التآزر المدني» التي كانت ترأسها لفترة معينة، ولو كانت المناسبة الحصول على جائزة دولية. كانت تقول إن كل ذلك مضيعة للوقت، وتقول للجهة التي تستدعيها: «احضروا أولا إلى المغرب لتتعرفوا عليه، وبعد ذلك يأتي دورنا…». 

قرأت كتاب «التشوف إلى رجال التصوف» لصاحبه ابن الزيات، فكتبت نصا لتقف على ما يجعل الإنسان سيدا. وكانت الخلاصة أن هذا الإنسان يتميز بالثقة في النفس. واحترام النفس لأن احترام الذات يمثل لبنة أساسية في اكتمال شخصية الإنسان. سألتها يوما عن سبب هذا التركيز على الحرية، حرية المجتمع ثم العقل والمرأة. قالت هو موقف فكري، وهو ضرورة تجرف المفكر والإنسان، ولكن أيضا لأن أمي اختطفت وهي ابنة الثامنة من عمرها، وبيعت في مدينة فاس. واشتغلت خادمة. فقد كان المغرب يعاني من الرق وخطف البنات منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى ثلاثينيات العشرين. هي منارة الفكر الحر، امتلكت جرأة القول، وشجاعة البوح، وإضاءة مناطق العتمة..

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى