هل يراقص الأديب الواقع على العزف النشاز؟! للكاتب لؤي طه

الجسرة الثقافية الالكترونية-خاص-

 

 

 

وأنتَ مخمورٌ، ومنتشٍ مع الكأس اللامتناهية العدد، حين تدور وسط الضجيج تراقص اللاوعي. يُصعب عليكَ مهما بلغت أذنك من رهافة السمع؛ أن تدرك بأن إحدى علامات المقام الفكري قد انفلتت وتدحرجت من على السلم الموسيقي؛ فوقعت تتدحرج على بلاط العزف النشاز، فتكّسرت بعض من أسنان المقام الموسيقي. في ظل هذا الصخب وفوضى الأقدام التي تقفز، والأجساد المتمايلة، والأنفاس التي يتصاعد منها بخار النشوة حد الثمالة! كيف لك أن تميز بأنك طوال الوقت كنت ترقص من ضمن الجميع على العزف النشاز؟!

إذا كان الأديب هو: من يهبُّ ذاته، يجلس عند حافة الخيال يُرتق أثواب الأحلام  ليُبلسها للمتلقي حين يشتد عليه ظلام اللامعرفة، في شتاء رياحه زَمْهرير. ويسجّر لهم حطب المعرفة ليغمرهم بدفء الحقيقة المتوهجة من موقد عقله ومدخنة أفكاره الكثيفة! إذن، لمَ نر اليوم أن غالبية القراء، وانصاف القراء. عراة لا تكسوهم ثياب الأديب؛ وأوردة عقولهم ترتجف من شدة برد الفراغ، ويعانون من هشاشة في عظام الوعي والإدراك لمتغيرات الطقس الزمني، وتقلبات الجو التاريخي؟!

أم أن الأديب هو كوكبٌ نرجسيٌّ، منفردٌ بذاته، يُغلق أبواب صومعته، ويسدُّ نوافذها ويسدل على أفكاره الطوباوية ستائر العزلة، ولا يفتح بابها إلا لثلة قليلة ممن يعتنقون عبادة نرجسية الفكر النخبوي؛ وكأنه يكتب لتلك الذات النرجسية، إذ يُقصي الشريحة العظمى من فهم لغزه السريالي ولا يترك لهم ولو مساحة شبر صغير؛ ليجلسوا قريباً من صومعته أو مشاركتهم في فك طلاسم نرجسية المفردة المغلفة بعقدة المعنى الغامض؟!

إذا تجولت ما بين صفوف الأزمة الراهنة، وحدّقتَ في المقاعد الأولى، هل ستجد مقعداً للأديب العربي؟ أم أنه يقف عند شرفة صومعته العالية، يزيح طرف الستارة ينظر إلى ما يحدث، ينفث دخان غليونه الكلاسيكي بكثيرٍ من الضجر! يكتفي بأن تلهمه تلك الأحداث أفكاراً تلبس ألواناً داكنة؛ تجعل من عجلة أصابع فكره تدور بسرعة الضوء  لأرشفة الألم الواقعي، على هيئة الوجع المجازي بشكلٍ ساخر! على الرغم من أن أزمة الفوضى بدأت بإيقاعٍ فكري خفيف ومضطرب؛ وكان من الممكن على الأديب لو تدخل بلهفة أكبر مما ظهرت عليها ملامح الأديب في وهلة الصخب الأولى؛ ليقوم بدوزّنة الكمنجات الصارخة على إيقاع أكثر تناغماً مع عزفه كأديب من عزفٍ فوضويّ به نشاز يزخ بأمطار الموت. لا أن يكون شاهداً على مقتل وطن! وهو من يدّون شهادته على جريمة الخراب الفكري والقتل المتعّمد للحل السلمي مع سابق الفوضى والجنون؛ فيكون هو القاتل بسكين عزلته النرجسية وهو المقتول على درجات السلم الموسيقي، تسيلُّ قطرات دمه من بين سطور نوتة الواقع؛ لينتهي به المصير إلى ضحية قبوله الرقص على وحل العزف النشاز!!

هل هي حقيقة، “كلما امتلأت خلايا الأديب معرفة تمزقت؟ وانتفخت شرايين عزلته عن الواقع؟” وكلما اتضحت رؤيته لماهية الفوضى وغاص في عمقها، انعدمت رؤيته للجمهور البسيط، وفقد لغة التواصل معهم، وصار من الصعب على هذا الجمهور أن يفهم أبجدية أفكاره الشائكة، والمبهمة في مضمونها والمعقدة في شكلها الظاهري؛ إذ يقف المتلقي وكأنه يتأمل في حل أحجية. فهل دور الأديب العربي هو تعقيد البسيط ليخلق للنخبة الدهشة الآنية؟! تاركاً وراء ظهره كل السَّواد المرهق معزولاً عن فهم تلك الأحجية اللفظية! هل ثمرة الإبداع الفكري يقطفها الأديب وحده حين تنضج وتفوح رائحتها بشهرة واسعة؟ أم على الأديب والمفكر أن يتقاسم مع المتلقي ثمرة هذا الابداع ويجالس جمهوره الذي كان هو واحد من معاناتهم؛ فالمعاناة كانت هي بذرة ابداعه. عندما يغير الأديب ازياؤه ويستورد لأفكاره أزياء غريبة وغربية ويتبرأ من زيه القديم ويعيش بذاكرة أخرى. ينسى جذوره الأولى وتصبح الذكريات مجرد إلهام تاريخي تستمد منها مخيليته الخصبة مادته؛ لكنه في الواقع يتنكر ممن كان يعيش معهم تلك الذكريات. يقول هردر J.G Herdr :

“الحقيقة أن الشاعر الذي يريد أن يسيطر على البيان، عليه أن يظل مخلصاً لأرضه وفي إمكانه أن يغرس فيها كلمات القوة؛ فهو يعرف تربتها، وفي إمكانه أن يقطف الزهور منها لأنها أرضه. وفي إمكانه أن يحفر إلى الأعماق وأن يبحث عن التبر، وفي إمكانه أن يرفع الجبال ويسير الأنهار فهو رب الدار” 

ولهذا فإن للأديب الدور الكبير في إعادة صياغة لحن الواقع المضطرب بلحن أكثر تناغماً وأكثر سلاسة مع امتداده بالأرض والجذور؛ فلا يكون اللحن غريباً متطرفاً بشدة لحداثة العصر الراهن؛ ولا أن يكون متعصباً لكل علامات اللحن القديم. اصلاح النشاز لا يقتضي  إقصاء اللحن برمته واستبداله بلحن جديد قد لا يتوافق مع أذان العامة. لكن بإمكان الأديب أن يرتقي بجمهوره من خلال عرضه للحن فكري منجسم ومتوازن. يبدأ عزفه كمقطوعات قصيرة ومقدمات لحنية يمتزج فيها الحاضر مع الماضي. فلا يكون القرار منخفضاً إلى حد الاختناق به، ولا أن يرفع الجواب إلى جواب الجواب ليجرح به حنجرة المتلقي. حتى تعتاد الأذن العربية على تمييز العزف السليم من العزف النشاز؛ فالأديب هو قائد الاوركسترا لجوقة الأفكار؛ كما عليه ألا يستهين بأصوات الكورس وإن لم يكن لهم الصدارة والظهور الكبير إلا في لازمة اللحن. الأديب حين يتجاهل شريحة شاسعة هي  التي يُقام عليها اساس اللحن، ويتعاطى معها بالإهمال وعدم الوثوق بقدرتها على الاستيعاب؛ هو يقتص من شكل اللحن. كل جزء هو الكل، والكل المتكامل لا يكون إلا من خلال الأجزاء مهما صغر حجمها ومكانتها. إن أفكاراً معزولة، لا تعمل على غاية الانتشار والتبادل أو الاغتناء بمتغيرات الحدث، ومواجهة مفاجآت ما سوف يحدث ، تُبقي صاحبها في دائرة المراوحة، والانكفاء  والفوضى الذاتية. إذا لم يؤمن الأديب بأن هناك صلة قرابة وجدانية ما بينه وما بين المتلقي سوف يكون أجنبياً عنهم وتعيش جميع أفكاره التي يراها إبداعاً، مجرد كومة أوراق على رفوف التجاهل؛ كما يعتقد بعض الأدباء والمفكرين بأن غالبية شرائح المجتمع لا تملك الفهم الكافي وبأنها فقيرة من المعرفة. كذلك فإن أكثر الجمهور يعتقد بأن الأديب هو طوباوي لا تربطهم به أي صلة قرابة،  هي عملية ثأر ضمنية كلٌّ يثأر من الآخر حسب مفهومه. الأديب يثأر من المتلقي بإقصائه عن تفسير الغموض وترك المتلقي في غيبوية؛ وبدوره المتلقي يثأر من الأديب بجعله يدور في حلقة نخبوية مفرغة منه، إلى أن يصبح الفكر مجرد هلوسات وهذيان، لا يطلع عليه إلا فئة محدودة؛ فيجد الأديب نفسه مفلساً ويصبح الفكر لا يساوي أي قيمة مقارنة بالأشياء السطحية والنشاطات الأخرى.

إن المبدع الذي يرافق إبداعه الغرور وتضخم الذات؛ يتساوى مع الجاهل والأميّ الذي لا يعرف كيف يحترم ذاته ويكّرمها بالمعرفة. الإبداع هو ليس مجموعات أفكار وأشعار، وشعارات نكتبتها على الورق أو نقولها في مناظرات أدبية وفكرية؛ إنما هي حالة خلق جديد ، تتجسد بها الأفكار الإبداعية على الواقع، ومن شأنها أن تغير المفاهيم الخاطئة، وايقاف نزف الحروب؛ وإلا فبما ينتفع المجتمع من إديب أو مفكر لا يملك القدرة والموهبة في تدريب كل الشرائح على العزف الصحيح الخالي من كل نشاز. النشاز الديني، والنشاز الأخلاقي، نشاز التطرف والتعصب، نشاز الرغبة ومعزوفات الشهوة التي تخدش أذن الروح الشفافة.

عندما لا تتطابق بصمة القول مع بصمة الفعل. ييدأ الانفصام والإزدواجية بالأديب ومن ثم يتسرب هذا المرض وينتشر في جميع أطياف المجتمع. عندما يدرك الأديب بأنه معجزة تحدث في كل مرحلة تحتاج إلى معجزة؛ وبأنه من السلالة الخالصة للرسل والأنبياء التي لم تنتهي بتوقف نزول الأنبياء. حينها سوف يحكم دولة التغيير، من خلال إيمانه بأنه هو العزف المنفرد الذي يبهر الجميع ويضطرهم للإصغاء؛ ليكتشفوا بأم عقولهم شدة الفرق ما بين عزف الأديب الراقي، وما بين عزف الجاهل النشاز!!  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى