رواية (عطر نسائي)… عندما يكتب الرجل بلسان المرأة
الجسرة الثقافية الالكترونية – وكالات -استطاعت رواية (عطر نسائي) للروائي عماد براكة، أن تحتل مكاناً متقدماً ضمن خارطة الروايات السودانية. فمنذ الوهلة الأولى، تجد نفسك أمام تحذير سماه المؤلف تحذيراً ثقافياً. رجا فيه بأن تحفظ الرواية بعيداً ليس عن أيدي المراهقين فقط، بل أيضاً عن أبناء جيله.
وأعتقد أن التحذير الذكي قد فتح شهية الكثيرين لاقتنائها ناهيك عن قراءتها فحسب، فكثير من الناس يؤمنون بعبارة (كل ممنوع مرغوب)، بينما يعتبر آخرون تحذير الكاتب يجب أن يؤخذ مأخذ الجد، خاصة وأن الكتاب تجاوز الخطوط الحمراء في أحد تابوهاته الثلاثة.
ولعل رؤى كل من الفريقين قد تكون صحيحة، ولكن رغم ذلك فإن المؤلف عماد براكة استطاع أن يكتب إبداعاً خالصاً قد لا يختلف عليه اثنان.
فالفكرة عند براكة عقد متصل محكمة عقده، والكلمة سلسة قادرة على توصيل المعاني عبر الإيحاء، غير بعض الهنات التي لا يخلو منها عمل والتي سنوردها لاحقاً.
عتبات النص الأولى
أما عتبة النص الثانية والمتمثلة في الإهداء، فقد جاء إهداء بعبارات كلاسيكية موجزة.
؛؛؛
التحذير الذكي الذي استهل به المؤلف روايته فتح شهية الكثيرين لاقتنائها ناهيك عن قراءتها فحسب، فكثير من الناس يؤمنون بعبارة (كل ممنوع مرغوب)
؛؛؛
عتبة النص الأخيرة والتي جاءت في غلاف الكتاب، كانت تحمل مقطعاً محفزاً للقراءة، فالعبارات بدت مترابطة وأنيقة.
فالراوية تحكي في استسلام (لقد مشيت على أطراف العتمة حتى لا أظلمها، أبحث لها عن ومضة ضوء تشفع لها داخل الروح يوم لا حقد إلا لها).
فيوم حقد إلا لها تنحت في ذهن القاريء أسئلة كثيرة عن من تعنيها الراوية.
إلى أن يقول (لم أعد أثق في ملامحي.. أسمعها في التلفون تخطئ في اسمي وتناديني باسمه، يا الله ما أبشع تلك الخيبة !).
تاريخياً بدأت الرواية في الثمانينيات قبيل إعدام المفكر محمود محمد طه، حيث كانت البطلة أحلام ياسين طالبة بجامعة الخرطوم في السنة الأولى، بينما انتهى زمن الرواية في بدايات سني حكومة الإنقاذ، حيث كانت الحرب تشتعل جنوباً مع الحركة الشعبية، وشرقاً مع قوى التجمع الوطني الذين كانوا يحاربون من إريتريا.
إدانة الأنثى
ولعل الكاتب قد أفلح في تصوير حياة البطلة واستخدامه للأنا الأنثوي، رغم أنه قد تحامل كثيراً على المرأة في أحكامه، حيث جعل الخيانة تجري في دم الأنثى كطبع ملازم لها.
وجعل بطلته تقودها الشهوة دون أن يكون لها دور في كبح جماحها، وجعل الغدر في المرأة والتي تمثلها بطلته، من صميم مكوناتها النفسية، كل هذا تحسه من خلال رسمه لخيوط روايته.
؛؛؛
الكاتب أفلح في تصوير حياة البطلة واستخدامه للأنا الأنثوي، رغم أنه تحامل كثيراً على المرأة في أحكامه، حيث جعل الخيانة تجري في دمها
؛؛؛
اعتمد المؤلف في قصته على الصدفة، رغم أن النقاد يعتبرون الصدفة هي من صميم الأشياء التي تفسد النص القصصي أو الروائي.
لأن الكاتب يستعملها عندما يعجز عن تحريك أدوات القص. إلا أن عماد براكة استطاع أن يوظف الصدفة بتلقائية يحسد عليها دون أن يفطن القارئ بأنه استعملها بطريقة مدبرة.
فالبطلة المغتربة بلندن يخبرها أحد أقارب زوجها بأن هناك ضيفاً من طرفه سيأتيهم، وبالصدفة ذاتها يلقي الزوج على أذنها اسم (حبيبها) الذي كانت تعشقه وتجن به.
ولعل المنطقي هنا أن تشل المفاجأة تفكير البطلة أحلام يس، لا أن تبدأ في عمل مخطط لاصطياد هذا الحبيب مرة أخرى.
سلاسة الصدفة
أما الصدفة الثانية التي استعملها المؤلف في ثنايا الرواية، هي أنه جعل عشاق البطلة الثلاثة يحملون ذات الاسم (خالد) بالرغم أن المؤلف برر له، فرغم اجتماعهم الثلاثة على اسم خالد، إلا أن أياً منهم لم يخلد، وجاء كمحطة عاطفية في داخلها.
أما الصدفة الثالثة التي صنعها براكة فهي التقاء الحبيب الأول للبطلة خالد عزالدين، بحبيبها الثاني خالد عبدالمنعم في أسمرا، أثناء الاستقطاب السياسي الحاد بين حكومة الإنقاذ من جانب، وبين الحركة الشعبية والتجمع الوطني الديمقراطي من الجانب الآخر.
والصدفة وحدها ولا شيء غيرها هي التي جعلت الأسير خالد عبدالمنعم يحكي عن أسراره مع حبيبته لخصمه خالد عزالدين والذي هو آسره، دون أن يدري أنه كان حبيباً لها قبله. فالمنطق يقول إن الأسير لا يأمن آسره حتى يحكي له عن أحاديث عادية، ناهيك عن تفاصيل خاصة لعلاقة عاطفية مضى عليها زمان طويل.
صدفة قاتلة
الصدفة الرابعة في رواية (عطر نسائي) تكمن عندما تجول خالد عبدالمنعم بعربته ليصطاد فتاة من الشارع، فإذا به يفاجأ بأن الفتاة التي اصطادها صدفة هي ابنة شقيقه الذي قاتل في حرب الجنوب وقتل فيها.
؛؛؛
الصدفة وحدها جعلت من هذه اللحظة نقطة تحول بالنسبة له حيث انضم إلى صفوف الإسلاميين وانخرط في صفوف المجاهدين حتى سقط أسيراً لدى التجمع
؛؛؛
وكانت هذه اللحظة نقطة تحول بالنسبة له حيث انضم إلى صفوف الإسلاميين وانخرط في صفوف المجاهدين حتى سقط أسيراً لدى التجمع الوطني.
وجاءت الصدفة لتجعله يلتقي بغريمه خالد عزالدين الذي كان ضمن صفوف اليسار بالتجمع الوطني.
وتأتي الصدفة الخامسة في الرواية، حيث ينسى خالد عزالدين مفكرته في شقة البطلة فتعرف أنه تعرف على حبيبها الثاني في الأسر.
كما تعرف تفاصيل خالد عبدالمنعم جميعها بعد أن فارقها بعد أن حكاها لغريمه خالد عزالدين، بما فيها صداقته لأخيها كمال يس.
وبالصدفة أيضاً كان خالد عزالدين قد أطلع حبيبته أحلام ياسين أيام وهج علاقتهما على نص شعري جاء بعنوان (حبيبتي تخونني مع زوجها في لندن) وهو ما تحقق بالفعل بعد أن وجدها بعد طول غياب.
عيب فني مقبول
كثيراً ما يعتبر النقاد الصدفة عيباً فنياً من شأنه أن يضعف النص، مثله مثل الموت للشخصية إذا لم يكن هناك داع من قتلها، ولكن لغة براكة الجميلة وقصته المشوقة تجدنا لا نقف كثيراً على هذا العيب الفني.
يمارس براكة تقنيتي الاسترجاع والفلاش باك باحترافية عالية دون أن ينقطع منه خيط السرد.
واستطاع أن يسرد قصة البطل الآخر خالد عزالدين من خلال مفكرته التي نسيها في الشقة، كما استطعنا أن نتعرف على بقية القصة من خلال رؤيته لها، وبهذا يكون براكة قد أضاف رائحة مختلفة عن رائحة عطره الأول النسائي.
؛؛؛
النقاد يعتبرون الصدفة عيباً فنياً من شأنه أن يضعف النص، ولكن لغة براكة الجميلة وقصته المشوقة تجدنا لا نقف كثيراً على هذا العيب الفني
؛؛؛
مارس الكاتب التداعي الحر في أكثر من مشهد في الرواية.
ففي فصل (رائحة الكتابة ب) فعندما علمت البطلة بحملها والذي جاء سفاحاً، فعمدت إلى ابتلاع أربع حبات من الكلوركين، ثم أخذت تبتلع بارود أعواد الثقاب لعلمها بأن الكبريت يسبب الإجهاض.
ثم تداعت البطلة عندما أخذت تصمم بواسطة الأعواد الكبريتية بيتاً، جعلته من عدة غرف، وبالأعواد نفسها جعلت له حديقة، وعندما تذكرت الحمل ضربت الأعواد فتحطم المنزل.
تداعيات خيال محض
أيضاً حدث تداع، فبعد أن أجهضت البطلة تخيلت نفسها أنها لم تجهض، بل ركبت قطاراً وسافرت إلى البعيد، وعندما توقف القطار مرت على بيوت من الحصير متفرعة من الجبل.
وعندما أعياها المشي جلست على حجر، فاقتربت منها عجوز، فدعتها للمضي معها إلى بيتها، وهناك أطعمتها الدخن والسمن، ومع الأيام بطنها انتفخت، حكت لها عن قصتها، عاشت معها حتى وضعت طفلها.
ساعدتها العجوز في تربيته، ويكبر الطفل ويتركها ويذهب للجامعة ويخبرها بأنه عشق زميلته، تطلب منه أن يأتي بها إليها، وعندما تأتي الفتاة تجد أنها ابنة ياسر فقيري من زوجته إيمان، أي أخت ولدها، فتفيق من خيالها.
؛؛؛
الرواية تُؤكد أن الرجل استطاع أن يعبّر بلسان المرأة، مؤكداً بذلك أن الإبداع لا يكون بنوع الكاتب سواء أكان ذكراً أم أنثى وإنما بفنه
؛؛؛
جاءت فصول الرواية بعبارات مميزة، فبدلاً من عبارة الفصل الأول، استعمل المؤلف عبارة النكهة الأولى، والتي جاءت باسم رائحة الخبز الحار، بينما جاءت نكهته الخاصة بعنوان نكهة الكتابة.
أما النكهة الثالثة فجاءت بعنوان نكهة الانهزام – مؤلمة، وجاءت نكهته الرابعة بعنوان نكهة لا بد منها- روائح متعددة وتعدد طعم النكهات في داخل الرواية، إلى أن انتهت بنكهة الاعتراف وهي النكهة الأخيرة في عطر الكاتب النسائي.
ورغم أن داخل كل فصل له تقسيمات عديدة أخذت في مجملها طابع الأرقام العادية إلا أن خيط السرد ظل متصلاً.
وفي الختام فإن رواية (عطر نسائي) رغم تحذير صاحبها من قراءتها إلا أنها تكشف عن رائحة عطر نسائي خاص جداً.
وتعبر عن أن الرجل الكاتب استطاع أن يعبّر بلسان المرأة بطلاقة، مؤكداً بذلك أن الإبداع لا يكون بنوع الكاتب سواء أكان ذكراً أم أنثى وإنما بفنه.. والفن هو مربط الفرس.