الشَّاعِرُ مُتجوَّلاً في حَدِيقة..
الجسرة الثقافية الالكترونية – وكالات –
“إذا كانتْ حقائقُ الأشياءِ لا تقولُ ما تقولُهُ افتراضاتُها، فلنُغيِّرْ إذاً تِلكُمُ الْحقائق” ألبرت إنشتين
(1)
.. يتَّفِقُ أكثرُنا، رُبَّما، على أنَّ ما قاله سقراط، فيلسوفُ الأغريقِ المعروف،: “اعرِفْ نفسَك”، هو أمرٌ مِنْ الصعوبة بِمكان..
حتّى أن الكثيرين مِمنْ رحلوا، مذ أنْ كانَ الرَّحيلُ، ويرحلون، لَمْ يستطيعوا ولا يستطيعون أنْ يعرفوا، وبالتالي أنْ يُعرِّفوا، أنفسَهم.. ولعَّل أكثرَ هؤلاء معرفةً بصعوبة كهذه هُم قبيلة الشُّعراء..
؛؛؛
السؤال إبتداءً: تُرى متى كانَ أوَّلُ عهدُ الإنسانِ بالشِّعر؟! لا مناصَ من الزعمَ بأن الشِّعر كانَ منذُ أنْ الإنسان.. وأن الصرخةَ الأولى كانت قصيدة
؛؛؛
إذن ماذا يقولُ شاعِرٌ ما عن أناه، وعن قبيلتِه التي تأويِه؟!
هَلْ يُنجينا مِنْ مأزقٍ كهذا، ولو إلى حين، أن نسألَ بدءاً: تُرى متى كانَ أوَّلُ عهدُ الإنسانِ بالشِّعر؟! لا مناصَ لنا نحنُ الشُّعراء مِنْ أنْ نزعمَ أن الشِّعر كانَ منذُ أنْ الإنسان..
وأن الصرخةَ الْبِكْرَ للإنسان الأول كانت لا شك قصيدةً بِشكلٍ مِنْ الأشكال.. هَلْ مرَّ بِكُم أنَّ ما نُسمِّيهِ زُغْرُودةً كانتْ هي صرخةُ شاعِرتِنا، وأُمَّنا، الأولى: حَوَّاء، وهي ترى آدمَها أولَ مرَّةٍ على الأرض.
لا هُناك في الْفراديس، حيثُ افترقا.. زُغْرُودة أو فأُغْرُودة.. وماذا كانتْ صرخةُ آدم إذْ ذاكَ سِوى قصيدته الأولى فرَحاً بلقاءِ قصيدتِه الأبهى: حَوَّاء..؟!
ملايين السَّنَوات إذن مرَّتْ، وتغيَّر كُلُّ شيء، إلا القليل.. وسَلِ الشَّاعَر الذي سيقولُ لك بارتياحهِ التامِّ ذاك: هذا القليلُ ليس هو حاجةُ الْجَسَدِ إلى الهواءِ والماءِ والخبز، بَلْ هو نِداءُ الرُّوحِ إلى قصيدة، والْعَكسُ لا شَكّْ..
(2)
وهَلْ حَقَّاً خُلِقَ الشَّاعِرُ مِنْ طِينَةٍ أُدُّخِرَتْ له هو وحَدُهُ، لا سِواه؟!
طِينَةُ الأسى أو.. كما أنشَدَ أسمَرُ النَّشيدِ ذاك؟! أمْ أنَّ الشَّاعِرَ هو الإنسانُ الإنسانُ وإنْ مَسَّهُ ما مَسَّه؟!
لو كانَ الشَّاعِرُ نسيجَ قصيدَتِهِ ليس إلَّا، لما ارتعَشَتْ لِرَنَّةِ مِزمارِهِ حتَّى روحهُ التي بين جَنْبَيْه.. ولكنَّه يقولُ ما هو قائلُهُ فتضحكُ نجمةٌ هناااااك مِنْ جُنونِ فِكْرَتِه..
ويُطرِقُ نَهْرٌ في القريبِ، يتسَمَّعُ خريرَ نشيدِهِ.. أو تميلُ شجَرةٌ بِجذِعها إلى الأمام ليهُبَّ عليها أكثرَ رذاذُ حَنينِه.. وتقولُ معشوقَةٌ لِعاشِقِها: دَعْ عنكَ ذا وذا، وهاتِ ما عندَّكَ مِنْ نَشيد..
القصيدةُ أزهدُ ما تكونُ في صُحبَةِ شاعِرِها.. سَهُمِ اشتياقِها أبداً يُشيرُ إلى الآخَرِ لا الأنا.. إلى مَنْ تفعلُ بِهِ القصيدةُ فِعْلَتَها، لا مَنْ فَعَلَ بِها ما فعَل.. إلى الحبيبِ الْمُقبِلِ لا الأوَّل.. إلى الْمٌستقَبَل لا الماضي.. إلى القارئ/ ة لا الشَّاعر/ ة.. ..
؛؛؛
القصيدةُ أزهدُ ما تكونُ في صُحبَةِ شاعِرِها.. سَهُمِ اشتياقِها أبداً يُشيرُ إلى الآخَرِ لا الأنا.. إلى الحبيبِ الْمُقبِلِ لا الأوَّل.. إلى الْمٌستقَبَل لا الماضي
؛؛؛
ألِهذا يدعو الشاعِرُ ليلَ نهار أنْ يُقيِّضَ الله لنشيدِه مَنْ يديرُ قَلبَه إليه فيرميهِ بِمحبَّةٍ تُديرُ رأسَه مثنى وثلاثَ ورُباع، حتى ليكونَ أحبُّ شيءٍ إليهِ هو أن يغرقَ إلى أبدِ الشِّعْرِ في قصيدةٍ لا قرارَ لها ولا؟!
…. ولكِنْ كيف إنْ أدارَ النَّاسُ رؤوسَهم إلى غَيرِ قصيدَتِه؟! إلى روايةٍ مثلاً أو أقاصيصَ أو.. ما يكونُ مِنْ أمرِ الشَّاعر وقصيدَتِه وقتَذاك؟!
هَلْ يُديرُ هو الآخَر ظهْرَه لَها؟! هَلْ مِنْ سبيلٍ، سِوى قصيدَتِه، إلى أنْ يدعو قارئِهِ إلى ما جَنتْه يداه مِنْ الأناشيد؟ هَلْ يمُدُّ ياءَ ندائه له، عنيتُ قارئه، فيقول كما قال الشاعرُ الْكَنَدي القديم “أرشيبالد لامبمان”، وهو يُقَدِّمُ لقصيدةٍ جديدةٍ له اسمُها “صباحُ يناير”: عزيزي القارئ، هذهِ قصيدةٌ جديدةٌ فحاوِلْ أنْ تفهمَها، إذْ ما جدوايَ إنْ لَمْ تفهَمْها؟
يأسى الشَّاعِرُ حين يحِسُّ غُربَةَ قصيدتِهِ في الأرض.. ولكن ألَديِهِ ما يفعلُهُ، بِقصَيدَتِه، ليطرَحَ عنها، ما استطاعَ إلى ذا سبيلا، شُبَهةَ ما يدفَعُ قارئها لِهجرِها إلى سِواها؟! كيف يكون الشَّاعِرُ وفِّياً لِنَصِّهِ وقارئهِ في آن؟!
مَنْ مِنْ الشُّعراءِ والشَّاعِراتِ يُحْسِنْ التَّجَوُّلَ في حديقةٍ عرضُها السَّماوات والأرض واسمها: الْحياة، فيستحيلُ وردةً مِنْ ورودِها لا يُجيدُ إلا الْجمالَ بأفسَحِ معانيه..
جمالَ الشيخ “فرَح ودْ تكتوك” الذي سارَ ومُريدٌ له فصادفا حسناءَ لا يجوزُ في حقِّها غير أنْ يُقبِّلَها مَنْ تُصادِفه، فقبَّلها الشيخُ، واتَّبَعَهُ الْمُريد..
وسارا فاعترَضتْ طريقَهما هذه الْمَرَّة حَيَّةٌ، فرفَعها الشيخُ إليهِ وأوسَعَها قُبلاً مِثلما كانَ مِنْ أمرِهِ مع الْحسناء، ثُمَّ مدَّ يديهِ بها إلى مُريدِهِ، فولَّى الْمُريدُ مُدْبِرا.. الشيخُ شاعِرٌ بامتياز، أمَّا الْمريدُ فلرُبَّما كانَ شِبهَ شاعِرٍ أو مشروعَ شاعِرٍ أو..
(3)
وكيف تكونُ ذاتُ الْقَصيدةُ عميقةً وبسيطة، مستحيلةً ومُمكِنة؟!
استدِر شيئاً ما لقصائدِ كِبارِ الشُّعراء تَليداً وطارِفا.. تقرأُها فتُطأطئُ لها قلبَك وتُسجَّلُ كامِلَ اعترافِك: أجل، هذا شاعِرٌ شاعِر، وهذهِ قصيدةٌ قصيدة..
وليسَ كذا هو الأمر لكُلٍّ قصيدةٍ تقرأُها، وإنْ وإنْ.. فلِمَ ذا؟! مِنْ نافِلةِ الْقولِ أنَّه ليسَ كُلُّ مَنْ قال أنا شاعِرٌ، هو بِالضرورة ما زَعَم.. وعَليهِ ليستْ كُلُّ كِتابةٍ أسماها كاتِبُها قصيدة هي ما أسمى، أليسَ كذلك؟!
؛؛؛
الشاعر الذي يُحْسِنْ التَّجَوُّلَ في حديقةٍ عرضُها السَّماوات والأرض واسمها: الْحياة، يستحيلُ وردةً مِنْ ورودِها لا يُجيدُ إلا الْجمالَ بأفسَحِ معانيه
؛؛؛
وتعالوا نَحنُقُ هُنا على “أُدونيس” الذي قالَ يوماً ما: “… يكفي لأُمَّةٍ ما، أنْ تنجِبَ أربعةَ شُعراء كُلَّ مئةِ عام”.. يا لَشُحَّكَ يا رَجُلْ، ما بالَكَ قد ضيَّقتَ واسِعا؟!
وماذا نحنُ فاعِلونَ إذاً بِعشَراتِ الشُّعراءِ والشَّاعِراتِ الذين يملأون الأرضَ أناشيدَ وأهازيجَ و.. كُلَّ مئةِ شَهرِ أو أقلَّ كثيرا؟!
إلَّا أنْ يكونَ الْحالُ أنْ كَثرَةَ هؤلاء تعني على نحوٍ أو آخَرَ غَلَبَتَهُم ولو عَدَداً على مَنْ لا يُجيدونَ غير الْعُلُوَ والْفسادَ والْقُبْحَ في الأرض..
أجلْ: الطُّغاةِ وتجَلِّياتِهم التي نعرِفُ في مَنْ دارَ حولَهم، وهُمُ كُثُرُ.. في مِثْلِ هكذا حال، فليكنِ الجميعُ شعراءَ وشاعِراتٍ غَاويينَ وغَاوِيات..
رُبَّما كانَ أقربُ الشُّعراء إلى قارئيهِ هو أقربَهُم إلى هَمِّهِم وانشغالِهِم وفَرَحِهِم وطيشِهِم وجنونِهِم وألَمِهِم..
فكُلُّ قصيدة تقربُ وتقارِبُ ما بِهِمِ، هي أثيرتُهُم وأبقاها أثَراً فيهِمْ.. أمَّا أنْ يُغرِّدَ الشَّاعِرُ/ ة في وادٍ غيرِ ذي ناسٍ وهَمِّ ناسٍ، فلا يلومَنَّ إلَّا نشيدَه إنْ هجَرَه الْهاجِرونَ والْهاجِرات..
(4)
.. .. وما علينا إنْ أبَى “إفلاطون” أنْ يجعلَ للشُّعراء موِضعاً في مدينَتِهِ الفاضِلة.. أو أنَّ “الْمَعرِّي” لم يُكرِمْ وِفادتَهم في جِنانٍ لا يدري ما يكونُ نصيبُهُ هو مِنها، بَلْ وبوَّأهَم مقاعدَ في النَّارِ و..
؛؛؛
الشُّعراء لا تعوُزُهم حِيلةٌ في أنْ يحتفوا بأنفُسِهِم.. وهُم في زماننا هذا، وإن تراختْ أكفُّهم عن شهوة اصلاح العالم يوقنون بان الشعر يجمل العالم
؛؛؛
فالشُّعراء لا تعوُزُهم حِيلةٌ في أنْ يحتفوا ولو قليلاً بأنفُسِهِم.. وهُم في زماننا هذا، وإن تراختْ أكفُّهم عن شهوتِهم القديمة تلك (وقد قائلٌ مِنهُم يوما ماً: أنا مُصابٌ بِشهوةِ إصلاحِ الْعالَم)، يوقِنونَ أنْ عالَماً بِلا قصائد، ليسَ جديراً أنْ يُقالَ له عالَم..
وأنَّ مَنْ كانَ يظنُّ أنَّ بالْخُبزِ وحده يحي الإنسان، فهو وظنُّه وخُبزُه!! ولا يحسبونَ أنْ سيجئُ زمانٌ يكفُرُ فيه الشَّاعرُ/ ة بالقصيدة وإنْ انفضَّ مِنْ حولِها مَنْ انفضّْ..
فكُفْرٌ كهذا، يهتزُّ له عَرْشُ الطيرِ والأشجارِ والأنهارِ والنَّاسِ والْحِجارة.. ألأجلِ هذا كانَ الشُّعراءُ والشَّاعراتُ أكثرَ الناسِ توقاً وإنشاداً لما أسماهُ “التِّجاني يوسف بشير” بالوجودِ الْمُغاير؟! إلى العالَمِ الْمستحيلِ، لا الْمـتاح.. وما أفقرَ الْمتاحَ، وما أغنى الْمُستحيلْ!!
سلاماً بجمالِكُنَّ وجمالِكُم أيَّتها الشَّاعِرات والشُّعراء.. احتفِلوا ما استطعتم بهذا الكائنِ الْخُرافيِّ الْبَهاء: الشِّعْر، فَبِهِ وبِسواهِ مِنْ حُرَّاسِ الْجمالِ والْخيرِ والْمَحبَّة، يطمئنُ الكونُ إلى أنَّ الطريقَ إلى دمارِه طويلٌ طويلٌ طويلْ..